اليمن الغارق في المجهول

08 ديسمبر 2017
+ الخط -
لو لم يساهم الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، في إنهاء حياته بمغامرة معلومة نتائجها، ولو لم يسعَ إلى حتفه بظلفه، لظلّ على حاله من القفز على حبال التحالفات ثم الانقلاب عليها. تحالف مع جنوبيي اليمن ثم حاربهم، وتحالف مع السعودية، وتلقى العلاج في مؤسساتها، ثم حاربها، وحارب الحوثيين، ثم تحالف معهم، قبل أن يعود إلى التحالف مع السعودية والإمارات، وينقلب على الحوثيين مرة أخرى، لتكون هذه آخر حلقة في سيرك التقلبات.
لو لم يفعل ذلك، لكان الرئيس المخلوع حيّاً كالميت، وهو الأكثر عناداً من بين الرؤساء الذين جرفتهم ثورات الربيع العربي، فموته الرمزي قبل أن يتحوّل إلى حقيقة تجسّد في قتله أكثر من مرة منذ قيام ثورة الشباب اليمنية في 11 فبراير/ شباط 2011، مروراً بإصاباته إثر تفجير جامع دار الرئاسة في يونيو/حزيران 2011. لم يمتثل لمناشدة ابنته الكبرى، والمقرّبة منه، بلقيس، بوقف ما يحدث في اليمن من مذابح ضد الأبرياء، ونصحها له بالرضوخ لمطلب الشعب بالتنحّي عن السلطة. فجاء صوت بلقيس الحزين والغاضب في تسجيلٍ ذائع ناعياً اليمن ورجالها، وليس أباها البطل الذي رفضت نعيه، ووصفت مقتله بأنّه نتيجة غدر. لم تشذّ بلقيس عن قاعدة بنات الرؤساء الذين لقوا المصير نفسه، وفي ظروفٍ مشابهة، فقد وصفت رغد صدام حسين من قبل والدها بالبطل والإنسان الوطني، وزعمت أنّه تعرّض للغدر من مقرّبين إليه. أما عائشة القذافي التي رفضت نعي أبيها، وقالت إنّه لا يزال يحارب مع قواته، فعندما سلّمت بمقتله اتهمت المجلس الانتقالي الليبي بالخيانة.
بعد أن أحرق روما، حاول نيرون اليمن، الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، كسب وقت 
إضافي بمناشدته للأخذ باليمنيين إلى طاولة الحوار. وكانت الخطوة محسوبة ومتوقعة، من رجلٍ خبر فنون التحايل، وخسر كل شيء، وأبدل العمر بلحظة نشوةٍ تخيل فيها أنّ اليمن وشعبه إقطاعيةٌ له ولأسرته، من نجله حتى أصغر عضو في قبيلته الممتدة. وباقتراح الحوار المشهود عربياً وأممياً، تمنى لو أنّه تمكّن من أن يهدي لنجله، وللحوثيين من خلفه، وقتاً يستعيدون فيه أنفاسهم. لم يكن صالح معترفاً بجامعة الدول العربية أو الأمم المتحدة، ولم يكن معترفاً بأي شرعية، وهو من عمل على تقوية ابنه ليحلّ محله، إلى الدرجة التي مضى فيها، ليفاوض على إحلاله رئيساً قادماً لليمن.
عندما قامت ثورة فبراير 2011 في اليمن، كان أمل الشعب اليمني المغبون هو الانتهاء من حقبةٍ طال مصّ دمائهم فيها، لكن الثورة لم تفرّق بين وطني غيور وطائفي مذهبي متسلّق، فركب سفينتها الكلّ. ولم تكن بالطبع كسفينة نوح تحمل كل هذه الأضداد في جوفها، فسرعان ما ضاقوا ببعضم، وضاقت بهم أرض اليمن، نظراً إلى اختلاف أجندتهم وأغراضهم، فلفظتهم من على ظهرها لتتلقفهم القوى المتربّصة التي كانت تمدّهم بكل المعدات والأسلحة. ولم يكن في وسع ثوار اليمن غير مقابلة نيران الأسلحة من هنا وهناك، حتى تحوّل الدفاع عن الثورة إلى دفاع عن الوطن.
بعد الثورة، لم يتحقّق لليمن أي من الأهداف الطبيعية التي كان من المفترض تحقيقها، وهي: سرعة استئناف العملية السياسية، ومواصلة حماية المدنيين، وتكثيف المساعدة الإغاثية والطبية للشعب اليمني، والسيطرة على السلاح، وعدم تمكين المليشيات من استخدامها خارج المعسكرات، أو تهريبها إلى الخارج.
هناك عاملان بارزان يعيقان حلّ الأزمة اليمنية. الأول داخليّ، وهو انقسام الشعب اليمني، فبعد إزاحة صالح الشكلية لم يدرِ أهل اليمن إلى أي اتجاه ييممّون وجوههم. احتفى قسم منهم بذكرى الوحدة اليمنية (21 مايو/ أيار 1990). أما القسم الآخر فأصرّ على الاحتفال بذكرى فكّ ارتباط بعض المحافظات الجنوبية عن الجمهورية اليمنية، والذي أعلنه علي سالم البيض في 21 مايو 1994. والعامل الثاني ازدياد الخيبات من موقف الأمم المتحدة، خصوصاً دعوتها الحالية، بعد مقتل صالح، إلى اجتماع عاجل للاحتكام إلى القوانين الدولية. وهذه الدعوة مثل سابقاتها التي لم تشر إلى أي نوعٍ من المحاسبة على الانتهاكات التي كان يرتكبها صالح، من فساد في الحكم، وفساد في الثروة لصالحه وصالح أسرته، حتى أدت إلى إفقار اليمن. فما تودّ العودة إليه هو الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الجامدة التي تحوم حول وضع قواعد السلوك 
المقبول، في تحديد مسألة شن الحرب، وتصنيفها بما هو في باب الحرب العادلة، وما هو غير ذلك. وعلى الرغم من أنّ هذه الإشارات نابعةٌ من معايير أخلاقية تجرّم الحرب في مطلقها، إلّا أنّها واقعياً تقيدها بقواعد وشروط هشّة. لذلك لم يتسنَ اتباع هذه القواعد في حروبٍ كثيرة في اليمن، وعلى مستوى العالم، على الرغم من أنّها جاءت مضمنة في ميثاق الأمم المتحدة.
لا شيء في يمن اليوم يشبه الواقع، ما يدعو إلى الاستعانة بنتائج المعالجات التي تمت في أوقات الحروب في أزمانٍ سابقة. في كتابه "الحرب والسلام" (1865)، رأى تولستوي إنّ مسألة تشذيب الحرب عن كل ما يتعلق بها، ووصفها بالضرورية، هو نوع من التحايل، من أجل إلباسها حُلّة الشرعية، وهذا من منطلق فكرته أنّ الحروب لا يجب أن تحدث. ثم جاء تولستوي بمبرّراتٍ لاندلاع الحرب، حتى وصل الأمر إلى تبريره ذبح الجنود الفرنسيين على يد الفلاحين الروس. وذلك الصراع الذي دار في صدر رواية تولستوي يدور حالياً في صدر اليمن، ويجسّد الخيط الرفيع بين مآسي الضحايا والبطولة المزيفة التي انتهى بها علي عبد الله صالح.
يقف اليمن الآن على رمالٍ متحرّكة ساخنة، وخارج كل التوقعات، فديناميكيات التغيير في الداخل تبدو معتمة، ليسيطر الأسوأ من أحلك حالات التشاؤم. فالاحتمال الأبعد هو الوصول إلى السلام، والذي أصبح كالفردوس المفقود، كما في الملحمة الشعرية للكاتب الإنكليزي جون ملتون التي كتبها في 1667. وبينما تدور هذه الملحمة في جنات عدن، فإنّ السلام المؤمل يُشتهى تحقّقه على عدن وكل أرض اليمن.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.