31 أكتوبر 2024
اليسار والراهن المغربي
شهد الحقل السياسي المغربي، في مطلع التسعينيات، حركة نشيطة ونقاشا منتجا وحركية لافتة، جسدتها عدة محطات ولحظات، كان أقواها وأشدها إثارة وجاذبية تقديم أحزاب المعارضة، آنذاك، ملتمس الرقابة، قصد حجب الثقة عن الحكومة. وكل من عايش تلك اللحظة السياسية الفائرة والمتوترة يستحضر، من دون شك، تلك الجلسات الماراثونية في الجدل والحجاج والنفي والتأكيد والمقارعة السياسية، فقد كان المشهد شبيهاً بمرجل سياسي يغلي، وببحر متلاطم الأمواج يرغي ويزبد، وكادت حكومة عز الدين العراقي أن تسقط، لولا مناورات واتصالات الدقائق الأخيرة. ولعل من تابع صراع المعارضة والأغلبية ومبارزاتهما التي استمرت في اليوم الأخير من معركة ملتمس الرقابة إلى غاية الصباح، يتذكّر تلك الحماسة التي كانت تؤطر وتحرك "فرسان المعارضة"، وأساطين السجالات السياسية في البرلمان، وهم يعرضون حججهم وبراهينهم، ويزيلون ما علق بالواقع من مساحيق وتزييف وافتراءات.
كنا نتصور، ونحن نرصد ذلك الفصل المتوتر من اشتغال السياسة في المغرب، أن أمراً عظيماً سيحصل، وأن الحكومات، مهما بلغت من دهاء ومهارة في إخفاء الحقائق، قابلة للسقوط، وأن من رضع من ثدي اليسار ورفع ردحا من الزمن شعارات التحرير والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة، هو صمام أمان الشعب وجداره الواقي والجسر الذي من خلاله تتم عملية التغيير الديمقراطي. وزاد في تعزيز هذا التصور وتضخيمه المعارك المشتركة التي خاضتها الأحزاب التي أسست الكتلة الديمقراطية، الاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، التقدم والاشتراكية الذي أصبح شريكا في الحكومة الحالية التي يقودها حزب العدالة والتنمية الذي يستند إلى المرجعية الدينية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي اختفت من الوجود، بعد عملية انشقاق مدمرة. وتوجت أحزاب الكتلة الديمقراطية تلك المعارك المشتركة بمجموعة من مذكرات المطالبة بالإصلاحات السياسية والدستورية، وأيضا النضالات التي خاضتها نقابتا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي تراجعت، هي الأخرى، بسبب نزيف تنظيمي حاد وانشقاقات غير مسبوقة، والاتحاد العام للشغالين في المغرب، إذ لم يكن يحدث أن يكون هناك شأن وطني أو قومي مهم، من دون أن تتحرك الأحزاب والنقابات، ولم يكن يدور في الحسبان أن تتعرض القدرة الشرائية لأوسع الفئات الشعبية لضربـات، أو غارات اقتصادية، من دون أن تسجل المواقف المطلوبة وتصدر البيانات، وتكتب الافتتاحيات، وقد تصل الأمور إلى تحركات واحتجاجات على الأرض، محملة برسائل إلى من يهمهم الأمر.
قد يكون للسياق الوطني العام في تلك المرحلة ما يبرره، وقد يكون للعبة السياسية منطقها الخاص، ومديروها الذين يتقنون فك الألغاز وتوقع الأسوأ ورسم مختلف السيناريوهات. لكن، على الرغم من ذلك كله، لابد من ملاحظة أن تراجعاً كبيراً لحق بالمشهد الحزبي والنقابي في المغرب، وبات ممكناً التساؤل عن الجدوى السياسية والاجتماعية والفعالية التأطيرية للأحزاب، خصوصاً وأن الأخيرة قطعت أشواطا مهمة في إنتاج اختلالات تنظيمية وسياسية، وتسويق خطابات تتعارض مع المنطلقات الإيديولوجية والمبادئ والقيم التي دافعت عنها واعتنقتها، حيث اختزلت الفعل والممارسة في مجرد احتلال مواقع، والظفر بحقائب وزارية، تحت طائلة أن النضال الديمقراطي لا معنى ولا قيمة له إذا لم يفض ويؤدي مباشرة إلى السلطة. وحسب اعتقادها، وحده الإمساك بزمام السلطة الكفيل بترجمة شعارات الثوريين والرومانسيين المنحدرين من سلالات إيديولوجية متجاورة ومعتنقي ديكتاتورية البروليتاريا والثورة الوطنية الديمقراطية، إلى مشاريع ملموسة وإنجازات على أرض الواقع، ينتفع منها المواطنون، وتدل، في الوقت نفسه، على نبل واستقامة ووفاء المناضلين من وزراء اليسار والصف الوطني، كما هو متداول في الخطاب الحزبي اليساري المغربي.
جوهر المشكل أن الأحزاب التي راهن عليها جزء من المجتمع المغربي، ومنحها شبابها وحماسها وزرع فيها الثقة، وشكل حاضنةً لإيديولوجيتها وشعاراتها، بذرت في من تعاطف وتلاحم معها وناضل في صفوفها، مفاهيم المواطنة والوطنية والوطن والمجتمع العادل والدولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والحق في الاختلاف والتعدد ودولة المؤسسات، وشحذت عزائم هؤلاء، لكي يدافعوا عن هذه المفاهيم والمبادئ، ويحمّلوها أمانة في أعناقهم، لكنها، أي الأحزاب، حسب شرائح عريضة من مناضليها الغاضبين، فكّت ارتباطها بجملة من تلك المبادئ والشعارات، وهربت من النافذة، للتنصل من أي التزام نضالي، أو أخلاقي، يحرجها. وحتى تكمل الدور، وتؤكد تفوقها على ما كانت تعرف بأحزاب الإدارة، وفق قاموسها، فإنها رفعت من إيقاع السرعة، وضربت بكل المبادئ عرض الحائط، وانطلقت جامحة مندفعة إلى ساحة حرب جديدة، لا اعتقال فيها، ولا دم ولا تعذيب، ولا جمر ولا رصاص. إنها باختصار حرب التسلق الاجتماعي، وتحسين الأوضاع المادية، وتقديم التنازلات، بغية احتلال مواقع متقدمة في بنية السلطة.
ويعكس أداء أحزاب عديدة في اليسار حالياً وضعية هشة، ومشهدا من التشظي التنظيمي والفكري والإيديولوجي، فقد مالت هذه الأحزاب إلى نهج تكتيكات جديدة، حفاظاً على هامش ضيق للمناورة، وعلى مجال محدود لممارسة وجود باهت على خريطة الفعل السياسي، مسلحة في ذلك باستراتيجية موغلة في الغموض، ما أحدث مناخا من التذمر والاستياء لدى الغاضبين الذين يعاتبون أحزابهم بالصمت والاستقالة حيال قضايا محورية. وفي وقتٍ يعرف فيه المجتمع جملة من الاحتقانات والصراعات والتجاذبات، من قبيل سؤال الهوية واللغة والجنس وتردي السياسة واتساع رقعة البطالة والفقر والزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية، وتنامي الفوارق الاجتماعية والجهوية والفساد بمختلف أشكاله وانتشار الجريمة والدعارة والمخدرات والعنف الاجتماعي والإرهاب .. إلخ.
وأمام حالة التفكك التنظيمي والارتباك الإيديولوجي وانحسار الإشعاع الفكري والسياسي، يلاحظ المتبعون لمتغيرات الحقل الحزبي والسياسي المغربي وتحولاته، أن بعض أحزاب اليسار التي طالما انتقدت البنيات التقليدية انتقلت من إطار المؤسسة إلى إطار العشيرة السياسية التي تعرف منطقاً واحداً تحتكم إليه، هو منطق الاستبداد والإقصاء. وتبعا لذلك، انتعشت ثقافة المصلحة والزبونية الحزبية وعلاقات وقيم الولاء والمساومة والتسويف.
تتطلب المصالحات الكبرى مع التاريخ والذاكرة، والانتقالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية الضامنة للاستقرار والتماسك الوطني، قوى سياسية وفعاليات قادرة على المبادرة والإبقاء على صلة بالمواطنين، أي أحزاب بجمهور وبجذور، ولديها القابلية للاشتغال والتحرك وإحراج السلطة.
كنا نتصور، ونحن نرصد ذلك الفصل المتوتر من اشتغال السياسة في المغرب، أن أمراً عظيماً سيحصل، وأن الحكومات، مهما بلغت من دهاء ومهارة في إخفاء الحقائق، قابلة للسقوط، وأن من رضع من ثدي اليسار ورفع ردحا من الزمن شعارات التحرير والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة، هو صمام أمان الشعب وجداره الواقي والجسر الذي من خلاله تتم عملية التغيير الديمقراطي. وزاد في تعزيز هذا التصور وتضخيمه المعارك المشتركة التي خاضتها الأحزاب التي أسست الكتلة الديمقراطية، الاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، التقدم والاشتراكية الذي أصبح شريكا في الحكومة الحالية التي يقودها حزب العدالة والتنمية الذي يستند إلى المرجعية الدينية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي اختفت من الوجود، بعد عملية انشقاق مدمرة. وتوجت أحزاب الكتلة الديمقراطية تلك المعارك المشتركة بمجموعة من مذكرات المطالبة بالإصلاحات السياسية والدستورية، وأيضا النضالات التي خاضتها نقابتا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي تراجعت، هي الأخرى، بسبب نزيف تنظيمي حاد وانشقاقات غير مسبوقة، والاتحاد العام للشغالين في المغرب، إذ لم يكن يحدث أن يكون هناك شأن وطني أو قومي مهم، من دون أن تتحرك الأحزاب والنقابات، ولم يكن يدور في الحسبان أن تتعرض القدرة الشرائية لأوسع الفئات الشعبية لضربـات، أو غارات اقتصادية، من دون أن تسجل المواقف المطلوبة وتصدر البيانات، وتكتب الافتتاحيات، وقد تصل الأمور إلى تحركات واحتجاجات على الأرض، محملة برسائل إلى من يهمهم الأمر.
قد يكون للسياق الوطني العام في تلك المرحلة ما يبرره، وقد يكون للعبة السياسية منطقها الخاص، ومديروها الذين يتقنون فك الألغاز وتوقع الأسوأ ورسم مختلف السيناريوهات. لكن، على الرغم من ذلك كله، لابد من ملاحظة أن تراجعاً كبيراً لحق بالمشهد الحزبي والنقابي في المغرب، وبات ممكناً التساؤل عن الجدوى السياسية والاجتماعية والفعالية التأطيرية للأحزاب، خصوصاً وأن الأخيرة قطعت أشواطا مهمة في إنتاج اختلالات تنظيمية وسياسية، وتسويق خطابات تتعارض مع المنطلقات الإيديولوجية والمبادئ والقيم التي دافعت عنها واعتنقتها، حيث اختزلت الفعل والممارسة في مجرد احتلال مواقع، والظفر بحقائب وزارية، تحت طائلة أن النضال الديمقراطي لا معنى ولا قيمة له إذا لم يفض ويؤدي مباشرة إلى السلطة. وحسب اعتقادها، وحده الإمساك بزمام السلطة الكفيل بترجمة شعارات الثوريين والرومانسيين المنحدرين من سلالات إيديولوجية متجاورة ومعتنقي ديكتاتورية البروليتاريا والثورة الوطنية الديمقراطية، إلى مشاريع ملموسة وإنجازات على أرض الواقع، ينتفع منها المواطنون، وتدل، في الوقت نفسه، على نبل واستقامة ووفاء المناضلين من وزراء اليسار والصف الوطني، كما هو متداول في الخطاب الحزبي اليساري المغربي.
جوهر المشكل أن الأحزاب التي راهن عليها جزء من المجتمع المغربي، ومنحها شبابها وحماسها وزرع فيها الثقة، وشكل حاضنةً لإيديولوجيتها وشعاراتها، بذرت في من تعاطف وتلاحم معها وناضل في صفوفها، مفاهيم المواطنة والوطنية والوطن والمجتمع العادل والدولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والحق في الاختلاف والتعدد ودولة المؤسسات، وشحذت عزائم هؤلاء، لكي يدافعوا عن هذه المفاهيم والمبادئ، ويحمّلوها أمانة في أعناقهم، لكنها، أي الأحزاب، حسب شرائح عريضة من مناضليها الغاضبين، فكّت ارتباطها بجملة من تلك المبادئ والشعارات، وهربت من النافذة، للتنصل من أي التزام نضالي، أو أخلاقي، يحرجها. وحتى تكمل الدور، وتؤكد تفوقها على ما كانت تعرف بأحزاب الإدارة، وفق قاموسها، فإنها رفعت من إيقاع السرعة، وضربت بكل المبادئ عرض الحائط، وانطلقت جامحة مندفعة إلى ساحة حرب جديدة، لا اعتقال فيها، ولا دم ولا تعذيب، ولا جمر ولا رصاص. إنها باختصار حرب التسلق الاجتماعي، وتحسين الأوضاع المادية، وتقديم التنازلات، بغية احتلال مواقع متقدمة في بنية السلطة.
ويعكس أداء أحزاب عديدة في اليسار حالياً وضعية هشة، ومشهدا من التشظي التنظيمي والفكري والإيديولوجي، فقد مالت هذه الأحزاب إلى نهج تكتيكات جديدة، حفاظاً على هامش ضيق للمناورة، وعلى مجال محدود لممارسة وجود باهت على خريطة الفعل السياسي، مسلحة في ذلك باستراتيجية موغلة في الغموض، ما أحدث مناخا من التذمر والاستياء لدى الغاضبين الذين يعاتبون أحزابهم بالصمت والاستقالة حيال قضايا محورية. وفي وقتٍ يعرف فيه المجتمع جملة من الاحتقانات والصراعات والتجاذبات، من قبيل سؤال الهوية واللغة والجنس وتردي السياسة واتساع رقعة البطالة والفقر والزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية، وتنامي الفوارق الاجتماعية والجهوية والفساد بمختلف أشكاله وانتشار الجريمة والدعارة والمخدرات والعنف الاجتماعي والإرهاب .. إلخ.
وأمام حالة التفكك التنظيمي والارتباك الإيديولوجي وانحسار الإشعاع الفكري والسياسي، يلاحظ المتبعون لمتغيرات الحقل الحزبي والسياسي المغربي وتحولاته، أن بعض أحزاب اليسار التي طالما انتقدت البنيات التقليدية انتقلت من إطار المؤسسة إلى إطار العشيرة السياسية التي تعرف منطقاً واحداً تحتكم إليه، هو منطق الاستبداد والإقصاء. وتبعا لذلك، انتعشت ثقافة المصلحة والزبونية الحزبية وعلاقات وقيم الولاء والمساومة والتسويف.
تتطلب المصالحات الكبرى مع التاريخ والذاكرة، والانتقالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية الضامنة للاستقرار والتماسك الوطني، قوى سياسية وفعاليات قادرة على المبادرة والإبقاء على صلة بالمواطنين، أي أحزاب بجمهور وبجذور، ولديها القابلية للاشتغال والتحرك وإحراج السلطة.