31 أكتوبر 2024
اليسار المغربي بين الواقعية واليوتوبيا
منذ عقود، واليسار المغربي يبحث عن بوصلةٍ تدله على الطريق الذي يجب أن يتبعه. وعلى الرغم من شراسة الواقع وعناد التركيبة الاجتماعية ومقاومتها، فإنه تمثل نظرياتٍ ومقولات من الاشتراكية العلمية والمادية الجدلية، وحتى الاشتراكية الديمقراطية. وعلى الرغم من ثقل الخصوصيات الثقافية والتاريخية والدينية، سدا منيعا في وجه مشاريع اجتماعية واقتصادية وسياسية مستوردة، فإن مكونات اليسار المغربي، خصوصا التي تعتبر نفسها الأجدر في التحدث باسم ما تصفه، في أدبياتها بالجماهير الشعبية، لم تطلق حلمها بصياغة نموذج اجتماعي، تسوده العدالة والكرامة والديمقراطية والحداثة والاشتراكية.
التأمت، قبل سنوات في الرباط، ثلاثة أحزاب، هي الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الاتحادي، وكلها من عائلة اليسار، لتعلن في مهرجان خطابي عن تأسيس فيدرالية اليسار الديمقراطي، بعد أن سبق للأحزاب نفسها أن شكلت في 2007 ما عرف بتحالف اليسار.
أرادت الأحزاب الثلاثة في اختيار يوم 23 مارس/ آذار موعداً لاجتماعها أن تظهر للطبقة الحاكمة، والقوى التي تدور في فلكها، أنها تملك شرعية تاريخية ونضالية، وتعتبر نفسها استمرارا طبيعيا لنضالات الفئات الاجتماعية المسحوقة، على اعتبار أن الانتفاضة الأولى التي شهدها المغرب ضد القمع والاستبداد والاستفراد بالقرار كانت في 23 مارس/ آذار 1965.
وكان الإعلان عن ميلاد فيدرالية اليسار الديمقراطي، حسب المؤسسين، ليس سوى الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل، لأن الهدف الاستراتجي هو تحقيق الاندماج، غير أن الوصول إلى هذا المبتغى يتطلب تمرينا نقديا قاسيا، وتدريبا على رياضة التنازلات المتبادلة، حيث لوحظ، عبر مختلف المحاولات الاندماجية والوحدوية التي جرّبتها أحزاب اليسار في المغرب، أن هناك صعوبة كبيرة في التخلي عن الذات الحزبية، فكل تنظيم يتشبث بكيانه وأجهزته وأطروحاته. وبشكل مأساوي، تطفو على السطح، بوعي أو من دون وعي، الحسابات الصغيرة والتأويلات غير البريئة، على الرغم من أن جل هذه الأحزاب خرج من رحم واحد، ويقتسم
الأيدولوجيا نفسها والقاموس نفسه. واللافت أن معظم هذه الأحزاب انشق عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سابقا)، والذي لم يتمكّن، في أكثر من احتقان داخلي، من تدبير تشنجاته التنظيمية بطريقة ديمقراطية، فكانت النتيجة تناسلاتٍ حزبية متتالية، ما أصاب الاتحاد الاشتراكي بالضعف والهشاشة، وحوّله إلى مشتل خصب للأزمات والصراعات والحسابات بشكل غير مسبوق، وامتدت تداعيات مأزق الحزب إلى المؤسسة التشريعية، عندما ارتبكت أجندتها واختل إيقاع عملها، وتراجعت مردودية فريق "الاتحاد الاشتراكي"، بعد أن أنهكه الصراع والنيران الصديقة التي كادت تحرقه من الأساس. وها هو الحزب يترنح من كثرة أعطابه، وتحوله إلى فاعل محدود الفعالية في المشهد السياسي، وإلى حزبٍ فقد قدرا كبيرا من شعبيته ووهجه النضالي، فبات يبحث، بكل الوسائل، عن موقع في أي تشكيلة حكومية، حتى ولو قادتها أحزاب كانت، بالأمس القريب، خصما لدودا له. وكان معظم المتعاطفين مع "الاتحاد الاشتراكي" يرون أن من الصعب تصور المشهد السياسي المغربي بدونه، فسيكون الأمر أشبه بتراجيديا سياسية، لو أن سفينة الحزب فقدت البوصلة، واضطرت إلى الغرق، فهذا التنظيم، بمرجعيته الفكرية والإيديولوجية التي تنهل من الاشتراكية الديمقراطية، وبرصيده النضالي والسياسي الذي لا جدال حوله، يشكل، في نظر من بقوا يناصرونه، ضرورةً سياسية لضمان اشتغالٍ سليم وناجع للديمقراطية في المغرب. ويعتبر هؤلاء أنه، إذا سمح المرء لنفسه، ولو من باب الافتراض، تخيل حقل حزبي مغربي خال من "الاتحاد الاشتراكي"، فإن هذا الحقل سيبدو، من دون شك، هشا وباهتا ومختلا. وسيكشف، وقتئذٍ، عن العجز السياسي والفكري المزمن الكامن في الأجهزة القيادية والأدوات التنظيمية للاتحاد، وعن عقم مدمر في إنتاج المبادرات واقتراح الحلول، واجتراح المقاربات، لكن الواقع والوقائع تكرّس عمليا هذه المأساة، حيث تحول الاتحاد إلى حزب صغير، حصل بالكاد على فريقٍ برلماني، بعد أن قاد حكومة التناوب السياسي.
ومن قراءة العناوين الكبرى لمشروع فيدرالية اليسار الديمقراطي في المغرب، والتي تعتبر نفسها أكثر تجذّرا واقترابا من نبض الشرائح الاجتماعية المتضرّرة، يبدو أنها جاءت لتطالب بملكيةٍ برلمانيةٍ وبدستور ديمقراطي، وبانتخابات حرة ونزيهة، وبإصلاحات عميقة في كل القطاعات، كما أنها سعت وتسعى إلى تشكيل معارضة حقيقية، ضد ما تصفها بالتكتلات الأصولية، سواء المخزنية أو التي تستند إلى مرجعية دينية، في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية (الحاكم).
غير أن هذه المطالب تعكس شكلا من الواقعية السياسية، إذ كيف يمكن إسقاط دستور صوّت عليه أكثر من 98% من المغاربة عام 2011، واعتبره معظم الفاعلين والنشطاء طفرة وثورة واستثناء في المنطقة العربية، بصرف النظر عن البطء في تطبيق مقتضياته.
هناك من يصف اليساريين بأنهم شعراء السياسة، فهم يهتمون بالإنسان المثال، وبالقيم وبالفكرة
وبالمبادئ، وينسون تعلم أصول الحكم وتدبير الملفات وحل المشكلات. وهذا ربما ما ينطبق على أحزاب اليسار في المغرب، بما في ذلك فيدرالية اليسار الديمقراطي، علما أنها، مجتمعةً، لا تتوفر سوى على مقعدين في البرلمان، ما يعني أنها تفتقد إلى القواعد التي في مقدورها أن تضمن لها وضعا مريحا في البرلمان، وأن توصلها إلى تدبير الشأن العام. بدون شك، لفيدرالية اليسار أنصار ومناضلون يتبنون أفكارا متقدمة، وقيما نبيلة، وما زالوا يفتخرون بالعذرية السياسية، ولا يكفون عن ترديد مقولتي التحليل الملموس للواقع الملموس، ولا صوت يعلو فوق صوت الجماهير، ويحلمون بممارسة السياسة بشكل مغاير، بتخليقها وترشيدها وعقلنتها، غير أن ما يهم في السياسة هو ترجمة الشعارات والمبادئ إلى أفعال وممارسات، تقنع الجماهير بمصداقية ما يعرض عليها من برامج، وما يتناهى إلى أسماعها من خطابات، وجدواها.
ومعلوم أن الحنين إلى الزمن الثوري المثالي يشكل، على المستوى الشخصي والذهني، وحتى الجماعي، الزمن المطلق والطاهر، وقد يصبح حالة انتشاء وإشباع افتراضية، ما دامت الوقائع العنيدة للواقع وشروطه الصارمة لم تسمح بتحقيق اليوتوبيا التي كانت تراود جيش الحالمين بالثورة الاشتراكية، لكن هذا الحنين لا يخلو أحيانا من مشاعر ندم ومن جراح.
وفي رواية "الإحساس بالنهاية"، للإنكليزي جوليان بارنز، والحائزة على جائزة مان بوكر في 2011، يعرّف الراوي الندم بأنه "شعورٌ أكثر تعقيدا، متخثر وبدائي، شعور سمته الرئيسية أنه لا يمكن فعل شيء حياله: زمن طويل جدا، ودمار كبير جدا وقع، إلى درجةٍ لا يمكن معها إصلاحه".
ما يهم هنا هو التعاطي مع مفهوم الزمن وتدبير الوقت، فلا يمكن أن نتصور حجم الخسارة التي يمكن أن تطاولنا إذا لم نحسن استغلال عامل الوقت، وإذا لم نحرص على التعامل معه بعقلانية ومسؤولية. وعدم التوظيف الجيد عامل الوقت ينم عن عدم التقدير الجيد، وعن غياب الشعور والوعي بخطورة ما يمكن أن ينتج عن ذلك من خسائر وتعطيل وتأخير لمشاريع وإنجازات، خصوصا إذا تعلق الأمر بمصلحة عامة.
وإذا تأملنا عميقا في التعريف الذي يقدّمه راوي "الإحساس بالنهاية" لمفهوم الندم، يصبح الموقف أكثر صعوبة وتعقيدا، وغير قابل للاستدراك، حيث لا يمكن أن نفعل شيئا حياله. وما أهدرته مكونات اليسار من فرص التوحيد والتجميع والبناء الصلب. وعلى امتداد سنوات، كان مردّه التردّد والمزايدة الفجّة والرعونة الذهنية والدوغمائية الفكرية والتعصب الإيديولوجي، وغياب الرؤية الواضحة في التخطيط والتنفيذ، وتصور المشاريع وتنزيلها، يعني أن سلوكا من هذا النوع تسبب في عجز سياسي، يقدّر بسنوات، وفي خسائر اجتماعية وتنظيمية ضخمة.
والغريب أن تستمر مكونات اليسار في المغرب، بوعي أو بدون وعي، في تأجيل مشاريعها وإصابة بنياتها بالعقم واللاإنتاجية والشلل. وفي المقابل، تمنح الحياة الإضافية لأحزابٍ، كان يصارعها، وكانت تستعمل ضده من الدولة لاستئصاله، حتى لا يمتد ويتجذّر، ومن ثم يتجبر. وكأن ما حدث ويحدث مجرد تفصيل صغير لا يستحق اهتماما أو مساءلة.
التأمت، قبل سنوات في الرباط، ثلاثة أحزاب، هي الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الاتحادي، وكلها من عائلة اليسار، لتعلن في مهرجان خطابي عن تأسيس فيدرالية اليسار الديمقراطي، بعد أن سبق للأحزاب نفسها أن شكلت في 2007 ما عرف بتحالف اليسار.
أرادت الأحزاب الثلاثة في اختيار يوم 23 مارس/ آذار موعداً لاجتماعها أن تظهر للطبقة الحاكمة، والقوى التي تدور في فلكها، أنها تملك شرعية تاريخية ونضالية، وتعتبر نفسها استمرارا طبيعيا لنضالات الفئات الاجتماعية المسحوقة، على اعتبار أن الانتفاضة الأولى التي شهدها المغرب ضد القمع والاستبداد والاستفراد بالقرار كانت في 23 مارس/ آذار 1965.
وكان الإعلان عن ميلاد فيدرالية اليسار الديمقراطي، حسب المؤسسين، ليس سوى الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل، لأن الهدف الاستراتجي هو تحقيق الاندماج، غير أن الوصول إلى هذا المبتغى يتطلب تمرينا نقديا قاسيا، وتدريبا على رياضة التنازلات المتبادلة، حيث لوحظ، عبر مختلف المحاولات الاندماجية والوحدوية التي جرّبتها أحزاب اليسار في المغرب، أن هناك صعوبة كبيرة في التخلي عن الذات الحزبية، فكل تنظيم يتشبث بكيانه وأجهزته وأطروحاته. وبشكل مأساوي، تطفو على السطح، بوعي أو من دون وعي، الحسابات الصغيرة والتأويلات غير البريئة، على الرغم من أن جل هذه الأحزاب خرج من رحم واحد، ويقتسم
ومن قراءة العناوين الكبرى لمشروع فيدرالية اليسار الديمقراطي في المغرب، والتي تعتبر نفسها أكثر تجذّرا واقترابا من نبض الشرائح الاجتماعية المتضرّرة، يبدو أنها جاءت لتطالب بملكيةٍ برلمانيةٍ وبدستور ديمقراطي، وبانتخابات حرة ونزيهة، وبإصلاحات عميقة في كل القطاعات، كما أنها سعت وتسعى إلى تشكيل معارضة حقيقية، ضد ما تصفها بالتكتلات الأصولية، سواء المخزنية أو التي تستند إلى مرجعية دينية، في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية (الحاكم).
غير أن هذه المطالب تعكس شكلا من الواقعية السياسية، إذ كيف يمكن إسقاط دستور صوّت عليه أكثر من 98% من المغاربة عام 2011، واعتبره معظم الفاعلين والنشطاء طفرة وثورة واستثناء في المنطقة العربية، بصرف النظر عن البطء في تطبيق مقتضياته.
هناك من يصف اليساريين بأنهم شعراء السياسة، فهم يهتمون بالإنسان المثال، وبالقيم وبالفكرة
ومعلوم أن الحنين إلى الزمن الثوري المثالي يشكل، على المستوى الشخصي والذهني، وحتى الجماعي، الزمن المطلق والطاهر، وقد يصبح حالة انتشاء وإشباع افتراضية، ما دامت الوقائع العنيدة للواقع وشروطه الصارمة لم تسمح بتحقيق اليوتوبيا التي كانت تراود جيش الحالمين بالثورة الاشتراكية، لكن هذا الحنين لا يخلو أحيانا من مشاعر ندم ومن جراح.
وفي رواية "الإحساس بالنهاية"، للإنكليزي جوليان بارنز، والحائزة على جائزة مان بوكر في 2011، يعرّف الراوي الندم بأنه "شعورٌ أكثر تعقيدا، متخثر وبدائي، شعور سمته الرئيسية أنه لا يمكن فعل شيء حياله: زمن طويل جدا، ودمار كبير جدا وقع، إلى درجةٍ لا يمكن معها إصلاحه".
ما يهم هنا هو التعاطي مع مفهوم الزمن وتدبير الوقت، فلا يمكن أن نتصور حجم الخسارة التي يمكن أن تطاولنا إذا لم نحسن استغلال عامل الوقت، وإذا لم نحرص على التعامل معه بعقلانية ومسؤولية. وعدم التوظيف الجيد عامل الوقت ينم عن عدم التقدير الجيد، وعن غياب الشعور والوعي بخطورة ما يمكن أن ينتج عن ذلك من خسائر وتعطيل وتأخير لمشاريع وإنجازات، خصوصا إذا تعلق الأمر بمصلحة عامة.
وإذا تأملنا عميقا في التعريف الذي يقدّمه راوي "الإحساس بالنهاية" لمفهوم الندم، يصبح الموقف أكثر صعوبة وتعقيدا، وغير قابل للاستدراك، حيث لا يمكن أن نفعل شيئا حياله. وما أهدرته مكونات اليسار من فرص التوحيد والتجميع والبناء الصلب. وعلى امتداد سنوات، كان مردّه التردّد والمزايدة الفجّة والرعونة الذهنية والدوغمائية الفكرية والتعصب الإيديولوجي، وغياب الرؤية الواضحة في التخطيط والتنفيذ، وتصور المشاريع وتنزيلها، يعني أن سلوكا من هذا النوع تسبب في عجز سياسي، يقدّر بسنوات، وفي خسائر اجتماعية وتنظيمية ضخمة.
والغريب أن تستمر مكونات اليسار في المغرب، بوعي أو بدون وعي، في تأجيل مشاريعها وإصابة بنياتها بالعقم واللاإنتاجية والشلل. وفي المقابل، تمنح الحياة الإضافية لأحزابٍ، كان يصارعها، وكانت تستعمل ضده من الدولة لاستئصاله، حتى لا يمتد ويتجذّر، ومن ثم يتجبر. وكأن ما حدث ويحدث مجرد تفصيل صغير لا يستحق اهتماما أو مساءلة.