الولايات المتحدة بين المثال والواقع

12 ديسمبر 2014

أميركيون يتظاهرون أمام البيت الأبيض مطالبين بإغلاق معتقل غوانتنامو(11يناير/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

بعد أكثر من أربع سنوات من التحقيق المرهق، وأكثر من ثمانية أشهر من المفاوضات الصعبة مع مسؤولي الإدارة الأميركية، أصدرت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي تقريرها حول التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية، "سي. آي. إيه"، في الفترة بين عامي 2001-2006. 

وبعيداً عن الجدل السياسي المحتدم في الولايات المتحدة، وداخل الكونغرس، وما بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، بشأن دقة خلاصات التقرير، وصوابية نشره من عدمه، فإن ما ينبغي أن يَلْفِتَ الانتباه، هنا، حجم السُّعَار الذي أصاب الحكومة الأميركية، وأجهزتها الأمنية والعسكرية، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وبالتالي، كسرها كل القيود الدستورية والقانونية والقِيمِيَّةِ المعيارية المفروضة عليها، في دولةٍ، يُفترض أنها ديمقراطية تلتزم بمعايير عليا.

التقرير الضخم، يتكون من 6000 صفحة، لم يرفع السرية إلا عن 525 منها، غير أنها كانت كافية لتكشف حجم الوحشية التي مارستها "سي. آي. إيه" بحق معتقلين صنفتهم على أنهم من تنظيم "القاعدة" أو قريبون منه.

المشكلة، هنا، أنه من أصل 119 معتقلاً على الأقل، في سجن كوبالت في أفغانستان، أو "الحفرة المالحة"، كما كان يصفه عملاء "سي. آي. إيه"، فإن 26 منهم، على الأقل، اعترفت المخابرات المركزية بأنهم اعتقلوا وعذبوا خطأً! ولكن الاعتقال والتعذيب الخاطئ، عنى بالنسبة لهؤلاء، كما لغيرهم، عشرات المرات من عمليات الإيهام بالغرق، الوحشية، الانتهاكات الجنسية، الحبس أشهراً طويلة في أقبيةٍ لا يدخلها الضوء نهائياً مع ضوضاء شديدة، الوقوف ساعات طويلة على أقدام أو أرجل مكسورة أو مصابة، أو إرغامهم على المشي، أو الجري عليها، التحقيق المتواصل أياماً طويلة، والأيدي مقيدة إلى الأعلى، مع الحرمان من النوم، الموت برداً، كما حصل في حالة معتقل واحد على الأقل، فضلاً عن الإطعام الوحشي والمهين عبر الشرج، من دون داع طبي يتطلب ذلك.. إلخ. 

ما سبق غيض من فيض مما ورد في تقرير لجنة الاستخبارات، غير أن الانتهاكات والتجاوزات لا تقف عند تلك الحدود، لقيم يُتَشَدَّقُ بها، حقيقية أم نظرية، لا يهم، بل هي تتعدى ذلك لتصل إلى أنه كان ثمة أذون من مسؤولين سياسيين منتخبين، وعلى أعلى مستوى، لارتكاب تلك التجاوزات، بالإضافة إلى كذب "سي. آي. إيه" على آخرين، سواء في السلطة التنفيذية أم في الكونغرس، المكلف بالإشراف على عملها. بل إن الوقاحة بلغت بـ"سي. آي. إيه"، إلى أن تتجسس، وتخترق، مطلع العام الجاري، كمبيوترات لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، لمحو وثائق اعتبرتها مُحْرِجَةً لها، وبقيت تصر على إنكار ذلك، حتى يوليو/تموز الماضي، وهو ما يعد، وفق الدستور والأعراف الأميركية، خرقاً لقاعدة الفصل بين السلطات. ولم يكن ذلك التجاوز الأول من الوكالة، في فترة التحقيق، فعملاؤها أتلفوا، من قبل، أدلة وأشرطة فيديو تدينهم بجرائمهم.

صحيح أنه يُسجل للرئيس باراك أوباما أنه أصدر قراراً تنفيذياً في الأيام الأولى لرئاسته، عام 2009، بمنع ممارسة عناصر الاستخبارات الأميركية من التعذيب، أو الجهات المستقلة المتعاقدة معها، غير أن إصراره على عدم تقديم المسؤولين عن تلك الانتهاكات والجرائم الوحشية إلى العدالة يقلل من قيمة فعله. فلا يبرر تلك الجرائم أن من ارتكبوها ظنوا، حينها، أنها قانونية، حسب مستشارين قانونيين في إدارتي جورج بوش، فهي، حتى وإن كانت قانونية، وهي ليست كذلك، تبقى غير إنسانية البتّة.

أيضاً، إن تحرك لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ لفضح تلك الممارسات الوحشية، أمر مُقدر، وهو، إن دَلَ على شيء، فإنما يدل على أنه لا زال في الولايات المتحدة بَقِيَّة من دستور وقيم ومعايير وأعراف تستحق الإشادة، غير أن هذا التحرك يبقى غير كاف. فحسب رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، دايان فاينستاين، تمثل تلك الممارسات "وصمة عار لقيمنا وفي تاريخنا"، وهذا صحيح، غير أن كشف المستور، من دون الدفع باتجاه إصلاحات قانونية صلبة، لمنع تكرار ذلك، يعني وصمة عار أخرى في جبين الدولة التي تقدم نفسها على أنها "منارة الحرية والديمقراطية" في العالم.

نعم، أميركا دولة، فيها دستور وقيم وأعراف ديمقراطية عريقة وراسخة، غير أنها، أيضاً، دولة يمارس فيها كل أنواع الانتهاكات والتجاوزات بحق تلك القيم والأعراف، حيث إن ثمة خللاً بنيوياً، وبوناً شاسعاً، بين الإطار النظري والممارسة الفعلية. ويكفي، هنا، أن نشير إلى العنصرية المتفشية في المجتمع الأميركي، خصوصاً بحق السود، وعنف الشرطة وعسكرة الأمن الداخلي، واللذين كشفت عنهما أحداث فيرغيسون ونيويورك.

الأهم في هذا السياق، هي تلك الثقافة العفنة المنتشرة في أوساط اليمين الأميركي، وبين كثير من عناصر المجتمع الاستخباراتي والأمني الأميركيين، والتي تستبطن أن المسلمين يمكن أن يعاملوا دون البشر، إن أثيرت حولهم شبهات بـ"الإرهاب". فالانتهاكات بحق المسلمين، أميركياً، في عالم ما بعد سبتمبر/أيلول 2001، غير محصورة في السجون السرية والتعذيب الممنهج الذي مورس فيها، بل إنها طالت مسلمين من حملة الجنسية الأميركية. ففي ظل حالة السُّعَار التي أصابت الإدارة الأميركية حينها، تم اعتقال وإدانة مئات من المسلمين الأميركيين بـ"الإرهاب"، بتهم واهية، وأدلة مفبركة، في أحيان كثيرة، في حين مارس القضاء، في بعض الأدوار، دور "مُحَلِلِ الزور".

بكلمة، لا شك أن للولايات المتحدة إطار ثقافي ودستوري وقانوني، متقدم نسبياً، غير أن مثل هذا الإطار، لكي يتحول إلى تراث يُباهى به، لا بد، أولاً، أن يُحْتَرَمَ ويطبق دائماً، وليس عندما يكون ذلك مريحاً فحسب. فالمساواة أمام القانون، وهي إحدى القيم الدستورية الأميركية، لا تتحقق في سياقنا هذا، إلا بمعاقبة كل من أذن، أو وافق، أو سكت، أو مارس، تلك الجرائم البشعة، بحق معتقلين، كائنةً ما كانت تهمهم.