ليست روسيا من البلدان التي اعتادت أن تتعاطى مع الوشم من دون أحكام مسبقة. فبعدما كان يعكس ارتباط صاحبه بالسجن والجريمة، بات البعض اليوم قادرين على التعامل معه بوصفه فناً
بعدما أنهى تخصّصه في التصميم الغرافيكي في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، قرّر ليف أندريخوف (22 عاماً) فتح ستوديو لرسم الوشم، محوّلاً بذلك هوايته وهوسه إلى مشروع مهني يراه واعداً، في ظل انفتاح الشباب الروس على هذه الموضة الجديدة، وتراجع الصور النمطية السلبية حيالها.
يتحدّث أندريخوف عن مسيرته في رسم الوشم منذ بدايتها. يقول لـ "العربي الجديد": "منذ صغري، كنت أهتم بالرسم والوشم، ودخلت استوديو للوشم للمرة الأولى عندما كنت في الـ 16 من عمري، ثم انخرطت في هذا الفن منذ ست سنوات". وعن زبائنه، يقول: "ينتمي غالبيتهم إلى تلك الفئات التي يبدو من الوهلة الأولى أنها لا ترسم الوشم، مثل المحامين والعاملين في القنوات التلفزيونية الحكومية وشركات الاستشارات. وهؤلاء يسعون إلى رسم وشم يبقى معهم إلى الأبد ليذكرهم بمبادئهم في الحياة. الأعمار تبدأ من 27 و28 عاماً وما فوق، ونادراً ما يأتي إلينا أشخاص في الـ 18 أو الـ 19 من العمر".
يبلغ متوسط سعر الوشم 30 ألف روبل (نحو 400 دولار أميركي)، وحول الرسومات التي غالباً ما يختارها زبائنه يقول: "في معظم الأحيان، يختار الناس ما يعبّر عن عالمهم الداخلي. يحدثونني عن حياتهم واهتماماتهم، فنصنع تصميماً ونرسمه على جهاز الحاسوب أولاً ثم على أجسامهم". ومع قراره التخصص في رسم الوشم، حوّل أندريخوف جسده إلى لوحة فنية. ويعلّق على ذلك قائلاً: "أهتم كثيراً بتاريخ وثقافة الوشم، وقد أعددت كتاباً عن تاريخ الوشم التقليدي. والوشم الموجود على جسمي رُسم وفقاً لتصاميم كلاسيكية تعود إلى نحو قرن ما قبل الحقبة السوفييتية، حتى أصبحت أحمل على جسدي طبقة كاملة من تاريخ الوشم".
في الحقبة السوفييتية، تشكّلت في المجتمع الروسي صورة نمطية سلبية حيال الوشم، خصوصاً أنه كان منتشراً على نطاق واسع في المعتقلات للدلالة على مكانة السجناء الطبقية السفلى، فتحول إلى رمز من رموز عالم السجن والجريمة. وفي الوقت الذي تشهد فيه موسكو وغيرها من المدن الكبرى انفتاحاً على الوشم، أظهر استطلاع للرأي أعدّه "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" منتصف العام الماضي أن 27 في المائة من المستطلعة آراؤهم، وغالبيتهم من قاطني المناطق الريفية، يعتبرون الوشم دليلاً على أن حامله قد أنهى عقوبة سجن. وبحسب الاستطلاع ذاته، فإن 43 في المائة من الروس يعتبرون أن وجود الوشم على جلد الإنسان يدلّ على سعيه لإبراز نفسه بين الآخرين، فيما رأى 41 في المائة فيه سعياً لمواكبة الموضة.
في هذا السياق، يقلّل أندريخوف من أهمية مزاعم ارتباط الوشم بعالم السجن والجريمة، قائلاً: "في ما يتعلق بالوشم في السجون السوفييتية، فثمة حقيقة مفادها بأن ثقافة الوشم في المعتقلات اقتصرت على فترة لا تزيد عن 20 عاماً بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي. إلا أن هذه الصورة النمطية ترسّخت نتيجة الأفلام والمسلسلات. وبشكل عام، ما زال الإقبال على الوشم في روسيا أقل منه في أوروبا والولايات المتحدة".
مع ذلك، ينفي أندريخوف تعرّض الناس الذين اختاروا رسم وشم على أجسادهم لأي تضييق في عملهم حتى في الخدمة العامة، مضيفاً: "لا يتم تسريح أحد من العمل بسبب الوشم، ويأتي إلينا زبائن يعملون في الوزارات. إذا كنتم ترسمون الوشم على وجوهكم أو أيديكم، فهذا نوع من التحدي للمجتمع، لكن يمكن رسمه على أجزاء الجسم المغطاة بالملابس. كما أن هناك إمكانية لإزالة الوشم بالليزر إن قرر حامله ذلك في يوم من الأيام".
لا يعمل أندريخوف في استوديو الوشم الذي أسسه بمفرده، بل مع بضعة فنانين ومصممين آخرين. يليزافيتا تشيبتشوغوفا (30 عاماً) هي إحدى هؤلاء. وتروي تجربتها مع الوشم قائلة لـ "العربي الجديد": "والدي فنان، وكنت أرسم منذ صغري. ذات مرة، حضرت إلى استوديو للوشم لرسم أول رسمة، فشعرت بمتعة هذه الأجواء وأنني سأصبح رسامة وشم أيضاً، وقد مضى أكثر من ست سنوات على عملي في هذا المجال".
وتعلق تشيبتشوغوفا على طبيعة زبائنها قائلة: "بالدرجة الأولى، هم أشخاص مكتفون ذاتياً ويفعلون ما يريدونه، وهذا خيارهم الواعي لإبراز أنفسهم بين الآخرين. أرى فيهم بالدرجة الأولى أصدقائي المستقبليين لأننا نتواصل معهم عن قرب، ويستمر بعضهم في التعامل معنا مرات محدودة وآخرون لسنوات. هذه المهنة تتطلّب تواصلاً دائماً مع البشر".