18 نوفمبر 2024
الوجه القبيح للهوية
ما الذي يجعل "إنساناً" يقتل إنساناً آخر، رجلاً أو امرأة أو طفلاً، من دون أن يرتكب الأخير أي ذنب، ومن دون معرفة سابقة؟ هل يُعقل أن "إنساناً" يقتل إنساناً آخر فقط، لأنه يعتقد أن المقتول يحمل هوية وانتماء مختلفين عن هويته وانتمائه؟ قد يبدو السؤال لا عقلانيا من الزاوية المنطقية، ولكن الوقائع الوحشية تفقأ العين، وتقول إن اللاعقلانية واقع، على الرغم من أنف العقل نفسه. والقتل على الهوية موجود في عشرات المواقع في عالم اليوم. ما زال العالم يشهد قتلاً وحشياً على الهوية وعلى نطاق واسع، والمنطقة العربية في قلب هذا النوع من القتل. صراعات الهوية تستخدم أسوأ ما في البشر من قيم، وتستثير أحط ما فيهم من غرائز وحشية، يتم استخدام الهوية الجزئية بأردأ أنواعها، حيث تختزل الآخر إلى عدو محلي يجب التخلص منه بأي ثمن، وبأكثر آليات القتل وحشية وبدائية، حيث تترافق هذه الجرائم عادة مع استخدام الأسلحة البيضاء.
عندما ينظر القاتل في عيني الطفل الذي يذبحه، ولا يرى فيه براءة الطفولة التي منعت كل الشرائع والقوانين قتلها، إنما يرى فيها ذلك الوحش الذي ينتمي إلى طائفةٍ أخرى إذا لم يقتلها ويبدْها اليوم، ستقوم هي بقتله، تكون البشر قد انحطوا إلى دركٍ عميق. يضع القاتل الطائفي نفسه في معركةٍ وجوديةٍ، يسمح فيها لنفسه بارتكاب كل الجرائم الممكنة لإبادة الآخر الذي إذا لم أبدْه سيبيدني، لغة الإلغاء والتصغير والتحقير التي يستخدمها في الحديث عن الآخر يحولها، في الميدان، إلى مجازر متنقلة وأرض محروقة. تتغذى النزاعات والحروب والصراعات
والأعمال الوحشية في العالم على وهم هوية متفرّدة تمنح القاتل الحق في سلب الآخر المختلف في الهوية حياته، ليس لذنبٍ ارتكبه، بل فقط لاعتقاد القاتل أن هوية الآخر تهدّده. ولا تقوم هذه الهوية من دون ارتكازها على بناء كراهية عميقة تجاه الآخر الذي يُنمّي القاتل هويته الإلغائية للآخر، للتأسيس لعمليات القتل الجماعي، عندما تحين فرصة إلغاء الآخر واجتثاثه والخلاص منه، للتخلص من خطره المفترض. وهذا لا يتم إلا بإعلاء أسوأ ما في الهوية إلى مرتبة القداسة، حيت تتم إثارة القوى السلبية المدمّرة لهوية مزعومة، يجب أن تسود على غيرها من الهويات "التافهة" التي يجب أن يخضع أصحابها لحاملي الهوية السائدة والمهيمنة، في أكثر التصوّرات رحمة. ولا تحجب هذه الهوية الانتماءات الأخرى للشخص فحسب، بل وتحجب كل الذين لا يشتركون معه في الهوية الممسوخة. وعندما تُعطى هذه الهوية شكلاً ملائماً ميالاً إلى القتال، وتمنح قوة عسكرية قادرة على تحويل الانتماءات إلى أعمال حربية في مواجهة الآخر، وعليه فالذين لا يشاركون صاحب الهوية المشوّهة هويته، عليهم الاختفاء من الحياة.
تمنع هذه النظرة الأحادية إلى الذات ولادة أي تعاطفٍ إنساني من القاتل تجاه ضحيته، والهوية القاتلة تهزم مشاعر الشفقة الفطرية في النفس البشرية تجاه الضحية الضعيفة العزلاء، فهو لا يعترف بها كضحية أصلاً. لذلك، يمكن أن تكون هذه النظرة عنفاً دموياً معمماً لا يعرف الشفقة، ولا الرحمة، ولا يرى الآخر، سوى بوصفه موضوع للعنف الدموي، فلا شيء يجمع القاتل مع الضحية التي لا يراها سوى عبر فوهة البندقية، أو عبر نصل السكين التي يذبح أخاه في الوطن بها، عدوّه في الهوية المختزلة البائسة التي تُشيطن الآخرين حتى الطفولة البريئة.
من أهم مصادر الصراعات الكامنة في العالم المعاصر الزعم أن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفاً متفرداً مؤسّساً على أساس الدين أو الثقافة. ويمكن للاعتقاد المضمر في القوة المهيمنة لتصنيف انفرادي أن يجعل العالم قابلاً للاشتعال في لحظةٍ يمتد حريقها إلى بنياتٍ اجتماعية متجاوزة للمشترك، فهي لا ترى لا المشترك الوطني، ولا المشترك الإنساني، وتصبح منتجةً لوحشيةٍ لا حدود لها. القتل الوحشي هو من "الآثار المروّعة لتصغير الناس"، فهذا التصغير هو الذي يجعل الآخرين أقل قيمةً من الذات، ويرفع من شأن الذات إلى حدودٍ تمنحها الحق في ارتكاب الجريمة الوحشية، والتعامل معها بوصفها إنجازا وطنيا، والقناعة الراسخة أن أي مساءلة وعقاب على هذه الجرائم لن يحدث.
يمكن للشعور بالهوية أن يكون مصدراً للفخر والقوة والثقة بالنفس، عندما تكون هوية متكاملةً ومنفتحة، وترى الآخر من موقع المساواة مع الذات. تبدأ من تلك الدعوة إلى "محبّة الجار"،
وصولاً إلى تلك النظريات الكبرى للرأسمال المجتمعي المشترك بين المواطنين الذين يشغلون الأماكن والحقول ذاتها. ولكنه، من جانب آخر، يمكن للهوية أن تقتل بوحشيةٍ وبلا رحمة، حيث يمكن لشعور قوي ومطلق بانتماء إلى جماعةٍ واحدةٍ أن يصنع مسافة للبعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى، ويُحدث جدراناً لا يمكن هدمها، فالتضامن الداخلي لجماعةٍ ما يمكن أن يغذّي التنافر بينهما وبين الجماعات الأخرى. التحريض على العنف يحدث بفرض هوياتٍ انعزالية ومغلقة وعدوانية، لا ترى في الآخر سوى عدو يجب القضاء عليه، هذه الهوية المنتجة لوحشيةٍ لا حدود لها يمكن إنتاجها في ظل صراع سياسي، يسعى أحد أطرافه إلى تطييفه، لأن هذا التطييف يخدمه في الصراع السياسي، ويوحد طائفته حوله. ويترافق ذلك مع تعظيم هوية الذات، وتصغير الآخرين، لتسهيل ممارسة الوحشية عليهم، وإخراجهم من دائرة الاشتراك معهم في الإنسانية، أو في المواطنة، وقد تلجأ السلطات التي تجد نفسها على طريق السقوط إلى تأجيج هذه الهويات القاتلة، وتوظيف اختزالها البشر في شيطنة الآخرين، وفتح الباب أمام ارتكاب المجازر الوحشية ضدهم. ولذلك يتم تأجيج أسوأ ما في الهوية الطائفية الجزئية، واستنفار أردأ أنواع البشر من مجرمين وحثالة المجتمعات، ليحتلوا كل المشهد السياسي، وليقوموا بالمهمة القذرة التي تهدف إلى ترويع الآخر، وجعله يخرج من الصراع، ويقرّ بتفوق الآخر وبسيادته عليه، والاستسلام له بوصفه عبدا.
عندما ينظر القاتل في عيني الطفل الذي يذبحه، ولا يرى فيه براءة الطفولة التي منعت كل الشرائع والقوانين قتلها، إنما يرى فيها ذلك الوحش الذي ينتمي إلى طائفةٍ أخرى إذا لم يقتلها ويبدْها اليوم، ستقوم هي بقتله، تكون البشر قد انحطوا إلى دركٍ عميق. يضع القاتل الطائفي نفسه في معركةٍ وجوديةٍ، يسمح فيها لنفسه بارتكاب كل الجرائم الممكنة لإبادة الآخر الذي إذا لم أبدْه سيبيدني، لغة الإلغاء والتصغير والتحقير التي يستخدمها في الحديث عن الآخر يحولها، في الميدان، إلى مجازر متنقلة وأرض محروقة. تتغذى النزاعات والحروب والصراعات
تمنع هذه النظرة الأحادية إلى الذات ولادة أي تعاطفٍ إنساني من القاتل تجاه ضحيته، والهوية القاتلة تهزم مشاعر الشفقة الفطرية في النفس البشرية تجاه الضحية الضعيفة العزلاء، فهو لا يعترف بها كضحية أصلاً. لذلك، يمكن أن تكون هذه النظرة عنفاً دموياً معمماً لا يعرف الشفقة، ولا الرحمة، ولا يرى الآخر، سوى بوصفه موضوع للعنف الدموي، فلا شيء يجمع القاتل مع الضحية التي لا يراها سوى عبر فوهة البندقية، أو عبر نصل السكين التي يذبح أخاه في الوطن بها، عدوّه في الهوية المختزلة البائسة التي تُشيطن الآخرين حتى الطفولة البريئة.
من أهم مصادر الصراعات الكامنة في العالم المعاصر الزعم أن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفاً متفرداً مؤسّساً على أساس الدين أو الثقافة. ويمكن للاعتقاد المضمر في القوة المهيمنة لتصنيف انفرادي أن يجعل العالم قابلاً للاشتعال في لحظةٍ يمتد حريقها إلى بنياتٍ اجتماعية متجاوزة للمشترك، فهي لا ترى لا المشترك الوطني، ولا المشترك الإنساني، وتصبح منتجةً لوحشيةٍ لا حدود لها. القتل الوحشي هو من "الآثار المروّعة لتصغير الناس"، فهذا التصغير هو الذي يجعل الآخرين أقل قيمةً من الذات، ويرفع من شأن الذات إلى حدودٍ تمنحها الحق في ارتكاب الجريمة الوحشية، والتعامل معها بوصفها إنجازا وطنيا، والقناعة الراسخة أن أي مساءلة وعقاب على هذه الجرائم لن يحدث.
يمكن للشعور بالهوية أن يكون مصدراً للفخر والقوة والثقة بالنفس، عندما تكون هوية متكاملةً ومنفتحة، وترى الآخر من موقع المساواة مع الذات. تبدأ من تلك الدعوة إلى "محبّة الجار"،