الوجه الجميل لكرة القدم

04 يوليو 2018

لوكاكو وناصر الشاذلي في مباراة بلجيكا مع اليابان (2/7/2018/Getty)

+ الخط -
عندما انتصر المنتخب البلجيكي، وتأهل إلى ربع نهائيات كأس العالم، علقت صحافة بلاده، في شبه إجماع تلقائي، قائلة "شكرا لمنقذي الأمة". وكانت تقصد اللاعبين مروان فلايني وناصر الشاذلي، وكلاهما كانا من ضمن لاعبي دكة الاحتياط، استنجد بهما مدرب الفريق في الخمس والعشرين دقيقة الأخيرة من المباراة، عندما كانت اليابان متقدّمة على بلاده بهدفين نظيفين. وفي اللحظات الأخيرة من المباراة، استطاع هذان اللاعبان أن ينقذا بلجيكا من هزيمةٍ محققةٍ، ويؤهلاها إلى ربع نهائيات الكأس العالمية.
وهكذا كتبت الصحافة البلجيكية على غرار موقعي "7 على 7" و"نوردكلير" البلجيكيين اللذيْن عنونا مقالاتهما: "فلايني والشاذلي منقذا الأمة"، ووصفاهما بأنهما من "الجنود الشجعان" ومن "أبطال هذه الكأس". واللاعبان الحاملان الجنسية البلجيكية هما من أصل مغربي، لذلك علقت مواقع إخبارية مغربية عديدة بالقول: "مغربيان ينقذان بلجيكا".
حدث الشيء نفسه تقريبا مع المنتخب الفرنسي الذي يُعزى مصدر قوته إلى تنوع فريقه الذي 
يضم لاعبين مولودين في أفريقيا وجزر الكاريبي الفرنسية، أو ولدوا لآباء هاجروا من الجزائر وموريتانيا والكاميرون ومالي وتوغو وموزمبيق وغينيا، وأنغولا، والكونغو.. وبفضل هذه التشكيلة المتنوعة، استطاع "الديوك" الفرنسيون أن يتأهلوا إلى ربع نهائيات كأس العالم، ويحملوا آمال الأمة الفرنسية في الوصول إلى نهائيات الكأس المقامة حاليا في روسيا، ليعيدوا تحقيق حلم 1998 عندما خرج فريقهم متوّجا بكأس العالم. وكانت تلك أول مرة تنتصر فيها فرنسا في أكبر تظاهرة رياضية عالمية، بفضل فريقها المتنوع الذي سيصبح نموذجا للفريق المتعدّد الثقافات، والموحد تحت راية واحدة، ويثير إعجاب دول أوروبية عديدة هبّت رياح التغيير نحو فرقها الوطنية. وباستثناء إيطاليا التي عابت على فرنسا آنذاك "استغلالها" مستعمراتها السابقة لتغذية نخبتها الوطنية، انتبه الألمان والبلجيكيون إلى الوصفة الفرنسية الناجحة، وبدأوا في تطبيقها داخل بلديهما، وتشكيل فرق وطنية من لاعبين يتحدرون من موجاتٍ مختلفةٍ من الهجرة ومن اللاعبين المجنسين. وهكذا أصبح الاتحاد الألماني (المانشفت) الذي كان صارما في اختيار لاعبي النخبة الوطنية من اللاعبين البيض من أصول عرقية ألمانية صافية، أكثر انفتاحا على لاعبين منحدرين من الهجرة التركية، أو من أصول أفريقية أو مغاربية أو برازيلية. وبفضل تشكيلته المتنوعة، نجح المنتخب الألماني أن يحرز قبل أربع سنوات لقب كأس العالم عام 2014 في البرازيل.
نجحت الكرة مرة أخرى فيما فشلت فيه السياسة، أي تحقيق الاندماج الثقافي والعرقي وتجسيد التنوع الذي تزخر به المجتمعات الأوروبية، ويسعى سياسيون يمينيون كثيرون إلى التنكر له، ففرق أوروبية كثيرة مشاركة اليوم في منافسات كأس العالم في روسيا تعطي النموذج الحي للاندماج الثقافي، والتنوع العرقي، لمجتمعات أوروبية تتغير من الداخل وفي العمق.
طبعا، يبدو كل شيء جميلا في كرة القدم، هذه "الساحرة المستديرة" التي تلهب المشاعر في كل مكان وزمان، فبالإضافة إلى الفرجة والمتعة والروح الرياضية التي تبثها في النفوس، وشحنة الفرح التي تغذّي بها الروح، هناك ما هو أجمل، وهو تلك الصورة الجميلة التي بدت عليها بعض الفرق الأوروبية، وهي تضم لاعبين من ثقافاتٍ متنوعةٍ، وبسحناتٍ ملونةٍ، وأصول مختلفة، لكنهم يلعبون فريقا واحدا، وتحت راية واحدة من أجل أمة واحدة، هي الأمة التي يحملون لون قميصها. إنه سحر كرة القدم الذي يصعب تفسير كيميائه، لأنها خليط من الأحاسيس والمشاعر والشحنات النفسية والعاطفية، عندما تنصهر في بوتقةٍ واحدةٍ، فتعطي تلك الصور الجميلة للأذرع الملونة، وهي تشتبك منتشيةً بفرح جماعي، تتقاسمه أمة واحدة لكنها متنوعة.
كرة القدم اليوم، وبهذه المنتخبات الوطنية المكونة من لاعبين من أصول إثنية مختلفة، ومن 
منابت متعدّدة، يدافعون عن القميص نفسه، هي أحسن جوابٍ على النعرات القومية الضيقة التي تنفخ فيها أحزاب يمينية أوروبية متطرّفة. وهي أجمل رد على موجات العنصرية الغربية المتنامية داخل الأوساط الأوروبية المحافظة في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإنكلترا وإيطاليا.. وليس من المفارقة في شيء أن تكون كرة القدم التي عانت، وما زالت تعاني، من الهوس العنصري، هي نفسها التي تقدم اليوم الجواب لمواجهة فكرة العنصرية الغربية المجنونة.
ولكن مع الأسف، فقصص الاندماج الناجح الذي نشاهده على شاشات التلفزة، ونحن نتابع مباريات كرة القدم في روسيا، لا تعكس دائما الواقع الصعب الذي تعيشه جالياتٌ كثيرة، ومن المهاجرين واللاجئين فوق الأراضي الأوروبية.
إنها قصص مفرحة ومبكية لاندماج افتراضي، سرعان ما ستنساه الشعوب الأوروبية، بعدما تنتهي منافسات كأس العالم، لتعود الصور الصادمة للواقع الذي لا يرتفع، صور المهاجرين العالقين في أعالي البحار يطردهم مرفأ إلى آخر، وصور طوابير اللاجئين أمام بوابات الحدود المُسوّرة. صور مؤلمة تختلف عن التي يحاول أن يجسّدها تنوّع النخب الرياضية الأوروبية الوطنية في المونديال. الصور الأولى المؤلمة والمحزنة يحكمها منطق السياسة الجاف والبارد الذي يدقق في نوع العرق وفصل الجنس وسحنة البشرة والأصل ولون الدم وأرض المولد.. بينما الصور التي تقدمها لنا اليوم الرياضة تحكمها ديمقراطية كرة القدم التي تقوم على اعتبارين لا ثالث لهما: حمل جنسية الفريق وامتلاك الموهبة الكروية.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).