لا يمكن تصوّر الصحراء من دون شعر، خلافًا لما يظنّ بعض الناس، إذ يؤاخون أولًا بينها وبين النوق والإبل والجمال، وبعض النخيل هنا وهناك. صورٌ مستمدّة ولا شكّ من مخيّلة أفسدها "استشراقٌ" من النوع المنتشر بوفرة.
الزواج الأبدي بين الصحراء والشعر هو المهد الأساس لولادة تلك القصائد القديمة؛ المعلّقات الجاهليّات المذهبات الفاتنات. بيد أن هذا الزواج، يأخذ صفة المقدّس، إذ لا يمكن مقاربته بعيدًا من السحر، واللفظ ها هنا مجازيّ وواقعي في آن معًا.
ولعلّ السحر، شغل الحصّة الكبرى في كتاب الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي: "قصص عن زمن وثني"، حيث تخيّل نفسه تاجرًا يمنيًا، رفقة امرئ القيس ومعلّقته في حضرة تلك الأرض الساحرة وصحرائها الشاسعة؛ شبه الجزيرة.
بدا البرغوثي مسحورًا تمامًا بدلالات الأرقام والمربع والمثلث والألوان، فبانتْ كلّها في نظره غير منبتة الصلة عن الحضارات القديمة من بابلية وسومرية وغيرها. بيد أنّ وصفه للمكان كان أكثر سحرًا: "كان الأفق دائرةً مطرّزة الحواف بالنجوم. نجومٌ تلامس رؤوس الجبال المحيطة بالوادي الذي تقع فيه مكة. جبالٌ جرداء تسبح في صمتٍ قمري، وتحجب نظري عمّا وراءها في المكان، وعمّا قبلها في الزمن. بيوتٌ من حجارة بركانية سوداء، حادّة الحضور. وشعرت بأنه لا توجد سماء أقرب إلى الأرض من سماء مكة فوق الجبل. ونظرت إلى الكعبة، حولها كانت فضاءات مفتوحة، مساحات للتأمّل والعزلة الصافية. وكانت السماء قريبةً مثل صلاة".
لم يتسنَ للفلسطيني سجين الاحتلال، زيارة الصحراء واقعًا، لكنّه زارها "خيالًا" من طريق الشعر القديم وحده. وكان خياله دقيقًا إلى حدّ كبير، إذ إن "علامات" النص الجاهلي، تفصحُ عن مكانه الأصلي، لكأنّ القصيدة خارطة. وهي كذلك، مثلما برهن على ذلك الكاتب والبلداني السعودي الراحل محمّد بن عبد الله بن بليهد، في كتابه "صحيح الأخبار عمّا في بلاد العرب من الآثار"، حيث وصف الأمكنة الواردة في القصائد القديمة، بعد أن رآها رأي العين، إذ كان يعبر الفيافي والصحارى في شبه الجزيرة مهتديًا بالوصف في الشعر، وهو الخبير به والعارف أيضًا بالمسالك والطرق والدروب على أنواعها.
كان كتاب السعودي، دليلَ الهولندي مارسيل كوربرشوك في عبور صحراء شبه الجزيرة، في ثمانينيات القرن المنصرم، ليغدو أوّل غربي تطأ قدماه "الدخول" و"حومل": "كم بدتْ نائية الأروقة المعتمة لدارسنوك على قناة رابنبورغ، وكم بدتْ ضئيلة السنوات الألف والخمسمائة التي تفصلني عن أقدم شاعر في الصحراء العربية! حيث كنت أقف، أوقف بعيره للبكاء على الأطلال، وهناك في الرمل تحت الرابية غازل بدوية نارية لعوبًا". دوّن الهولندي الشغوف بالقبائل العربية وتراثها الشفهي، رحلته البحثية في كتابٍ شهيرٍ تُرجم إلى العربية "البدوي الأخير" (ترجمة عبد الإله النعيمي). ولم يخفِ كوربرشوك شغفه وإعجابه اللا متناهي بأحد شعراء قبيلة الدواسر، الملقب بـ "الدندان"، فأفرد له صفحات كثيرة من كتابه أولًا، قبل أن يفرد له أحد أجزاء كتابه ذي الأجزاء الخمسة عن الشعر الشفوي في شبه الجزيرة، حيث دوّن قصائده، فقد كان "الدندان" من أبناء الشعر النبطي لا التقليدي الفصيح. وليس غريبًا أن يعقد الهولندي صلةً بين المحكية والفصحى شعرًا، إذ إن الوشائج الكثيرة بينهما بانت جليةً قبل ذاك من خلال كاتب أكاديمي سعودي آخر هو سعد الصويان المختصّ بالشعر النبطي، وله مؤلّفات كثيرة فيه.
لكن كوربرشوك لم يكن رحالة أو باحثًا "أجنبيًا" وقتها، بل كان دبلوماسيًا، وغدا بعد سنوات سفيرًا لبلاده في غير ما بلد. وعمل إلى فترة قريبة ممثّلًا خاصًّا لبلاده في الشأن السوري. لذا لن يكون غريبًا تطرّقه إلى هذا البلد النازف في حواره مع ملحق الثقافة. "الغريب" فعلًا هو نظرته إلى الأمر من ناحية بعيدةٍ من الدين والتطرّف، تلك الزاوية التي يجهد غير ما كاتب ودبلوماسي "أجنبي" وعربي أيضًا، في الاقتصار عليها وحدها عند التطرّق إلى سورية.
لكن ليست سورية وحدها المقصودة بهذا الربط المتعمّد بين الدين الإسلامي والعنف، سورية غدتْ من هذه الناحية مجازًا يكاد يتسع لبلاد العرب كلّها أن يتعلّق الأمر بهويّة العرب وثقافتهم وتاريخهم وحاضرهم أيضًا. ثمّة اختزالٌ عالمي للعرب في صورةِ الإرهابي المسلم، الأمر الذي دلّت عليه طائفة من المقالات والتعليقات الخاصّة بجريمة باريس التي أودت بحياة 12 ضحية. ورغم الاستنكار العربي لجريمة باريس، يظهر العرب، في ظلّ هذا الجو المشحون ضدّهم، كما لو أنهم جميعًا مختزلون إلى صورة المتهم الوحيد والدائم.