الهمّ السوري والهوية المضيعة

09 يناير 2019
+ الخط -
تبحث الشعوب دوماً، في مسيرة تدافعها مع الطغاة ومقاومة تسلطهم واستئثارهم، عن نموذجها السياسي الذي يلبي تطلعاتها، وينسجم مع هويتها ومخزونها الثقافي، ولكن الوصول إلى هذا النموذج المنشود يغدو مستحيلاً إذا لم تمتلك هذه الشعوب الإيمان الكافي بوحدتها أولاً وقدرتها على تحقيق الهدف ثانياً، وهو ما يمكن أن نشير إليه اختصاراً بـ"الهوية الجامعة".

لعل "الهوية الجامعة" تفسر شيئاً من أسباب نجاح ثورات بعض الشعوب تاريخياً، على صعوبته، في الوقت الذي فشلت وتفشل فيه ثورات شعوب أخرى، وليست الثورة السورية استثناءً في هذا الصدد.

لا تحتاج أنظمة الحكم الفئوية السلطوية إلى مقومات كثيرة لتتمكن من الصمود والبقاء، فأدناها الدهاء واللعب على التناقضات الثقافية بين أبناء الشعب الواحد، وأعلاها القوة المطلقة وسحق التمرد بالمزيد منها. في حين أن الشعوب إذا ما امتلكت زمام أمرها وتمكنت من التعبير عن إرادتها العامة فإنها تتطلب مقومات إضافية، للرسوخ أولاً، والصمود أمام تمرد المتضررين من التغيير ثانياً.

هنا تحديداً، يغدو الحديث عن "الهوية الجامعة" كأساس للعقد الاجتماعي واستمراره ضرورة لا ترفاً، وتصبح الجهود المبذولة من أجل تجاوز النعرات والأحكام المسبقة بين فئات الشعب الواحد، وكل ما من شأنه أن يولد الشقاق فيما بينها، جزءاً لا يتجزأ من المعركة ضد الاستبداد والطغمة الحاكمة، فبدون التضامن الشعبي، فإن أي مكاسب يحسب الشعب أنه حظي بها تظل عرضة للزوال.


وإذا كان هذا الكلام ينطبق على ثورة نجحت، كهدف أولي، في إزاحة الطغمة الحاكمة عن السلطة، فإنه أكثر انطباقاً على تلك الثورات التي لم تتمكن حتى الآن من تحقيق هذا الهدف، ويتراءى للكثير من المراقبين أنها أوشكت على الدخول في عداد الثورات الفاشلة، وهنا لا أعني إلا الثورة السورية.

لست أفشي سراً عندما أقول إنني مع كل إيماني بعدالة الثورة السورية ونبل أهدافها، فإنني لم أكن -منذ البداية- بذات القدر من الإيمان بقدرتنا نحن السوريين على بناء سورية التي ينشدها الغالبية العظمى منا، سورية الحرية والكرامة والعدالة، وذلك لغياب الهوية الجامعة، ولا أدل على ذلك من أن الكثير من السوريين يفتقدون مثلي تلك الثقة، بل إن هذا ما خلص إليه أيضاً بعضهم من غير السوريين بعد ثماني سنوات على اندلاع الثورة.

يتطلب التفصيل في أسباب تشكل هذه القناعة حديثاً مطولاً في التاريخ والجغرافيا والثقافة ليس هذا مكانه، والأجدى برأيي، عوضاً عن ذلك، البحث عن هذه الهوية الضائعة، وأولى الخطوات الصحيحة في هذا الاتجاه هو الإقرار بغيابها.

ولكي لا نفرط في التشاؤم، فإن عليناً في الوقت نفسه أن نقر بأمر معاكس، فإذا كان غياب الهوية الوطنية الجامعة ملمحاً بارزاً في العلاقات البينية للشعب السوري، فإن الثورة كشفت عن مشتركات عديدة بين مكوناته، وربما أنشأت بعضها إنشاءً.

تبدأ هذه المشتركات بالهمّ الوطني الواحد، وإن تفاوتت الرؤى لهذا الهم وكيفية علاجه، وتمر بمطلب الكرامة، وهي شعار خاص للثورة السورية يميزها عما سواها من الثورات، وانتهاءً بالوعي العام بوجود معضلة "ضياع" الهوية الجامعة، والشعور المشترك بالإرباك والإزعاج الذي تتسبب به.

هذا المشترك الأخير هو المفارقة المبشرة في هذا الصدد، فالغالبية مقتنعة أو شبه مقتنعة بأنه لا أمل من توحيد السوريين في وجه الطاغية، وهذا بحد ذاته وعي مشترك يمكن أن يبنى عليه الكثير، كما أن الغالبية أيضاً، وعلى الرغم من تلك القناعة، لا تكل ولا تمل عن حمل "الهم السوري" والشعور بمسؤولية ما تجاهه، وبالتالي استمرار العمل مهما كان ضئيلاً لتحقيق الأهداف المنشودة.

الهوية الجامعة هي "ضائعة" باعتبار ما كان، ولكنني بت أعتقد أكثر من أي وقت مضى أنها حالياً "مضيعة" لا ضائعة، وذلك باعتبار ما يكون، إذ إن صنعها لا يزال في حيز الممكن، بل الواجب، في ظل توفر مقوماتها.

بإمكان السوريين إذاً أن ينطلقوا من حيث انتهوا إليه، أي من حيث القناعة المتشائمة بغياب الهوية الجامعة، والتي باتت مشتركاً بارزاً بينهم، فلو أن جميع من يحملون هذه القناعة لم يعملوا إلا على التواصل فيما بينهم واستكشاف الفرص ليعمل الجميع من أجل الجميع، وتوحيد بعض الجهود المبذولة بالفعل، فإنهم سيكونون قد وضعوا أقدامهم في بداية الطريق الصحيح، والموصل حتماً نحو التغيير المنشود.
CCC1F875-8A4B-471C-BAC7-8D015367F189
CCC1F875-8A4B-471C-BAC7-8D015367F189
إبراهيم العلبي
إبراهيم العلبي