الهدنة... خيار دولي واستعداد لجولة مقبلة

03 مارس 2016
قد تكون الهدنة طوق النجاة للعدو (Getty)
+ الخط -
لا تكاد أحاديث السوريين تصل إلى الهدنة المفروضة عليهم من قبل القوى العظمى حتى تعتريهم مشاعر متناقضة، بين خوف وأمل ويأس وتفاؤل وحذر، كيف لا ووقف إطلاق النار أو الأعمال العدائية الذي أعلن عنه في بيان أميركي روسي مشترك الإثنين 22 فبراير/ شباط، ودخل فجر السبت 27 فبراير/ شباط الماضي حيز التنفيذ، يشتمل على العناصر الكافية لإثارة تلك المشاعر، سواء جميعاً أم فرادى.


لا شك في أن "الهدنة" قد توحي بالضعف والانكسار وحتى التنازل، ولكنها مفهوم حربي بالأساس، أي أن الهدنة، أو الوقف الجزئي والمؤقت للقتال، هي من لوازم الحرب، وتعارف الناس عليها منذ فجر التاريخ، كوسيلة فعالة بيد الأطراف المتحاربة لإعادة تجميع صفوفها واستعادة قواها المستنزفة، وإعداد الخطط لجولة جديدة من القتال، بينما قد تكون خاتمة الحرب بالفعل إذا استقرت الأمور بعدها.

وإذا كان "العرف" هو المعيار المتبع قديماً في صياغة شكلها وشروطها، مضافاً إلى الظرف، بما يمليه من هيمنة للأقوى وتنازل للأضعف، فإن النظام الدولي الجديد، مدججاً بمنظومة من القوانين والمعاهدات والتوازنات الحربية، قد حل محل العرف، من حيث الواقع، وأيضاً محل الظرف على نحو جزئي، أي أن القوة العسكرية والقدرة على إلحاق الهزيمة بالخصم لم تعد كافية لفرض الإرادة عليه، فضلاً عن النظام الدولي إياه، وتحولت القوة الذاتية إلى أحد، وليس كل، العوامل المساهمة في ذلك، لكنه عامل ليس بالهين على كل حال.

بناء عليه، الهدنة من حيث المبدأ ليست مشكلة بالنسبة لثوار سورية، بل قد تكون مطلباً، وقد تكون أيضاً طوق النجاة للعدو، ولذلك فإن نقطة البحث في صلاحية أي هدنة أو وقف للقتال تكمن في تقدير الظرف القائم من جهة (ميزان القوة والتحالفات والتكلفة والوضع الميداني)، ومدى الفائدة المرجوة منها من جهة ثانية. وفي حالتنا السورية، حيث تفرض الهدنة من قبل النظام الدولي بدلاً من أن تكون خياراً يُتفق عليه بين طرفي أو أطراف الحرب، يجدر البحث فيها من جهة ثالثة، وهي حسابات الأطراف الدولية النافذة التي أملت الهدنة، وكذلك الشروط المرفقة بها من قبل تلك الأطراف، وهذه رابعة جهات البحث والنظر.

فعلى صعيد نقطة البحث الأولى، يفترض أن القادة الميدانيين أفضل من يستطيع تقدير الظرف القائم، بيد أننا من المفيد في هذا السياق تقديم خلاصة سريعة يمكن أن تكون مثالاً على كيفية التفكير والتعاطي مع الموقف.

لا يمكن الزعم بأن الوضع الميداني منذ 4 أشهر، هي عمر العدوان الروسي المباشر، في أفضل حالاته، بل شهد انتكاسات مثلت في محدوديتها، مقارنة بحجم الهجمة الشرسة للعدو، صموداً أسطورياً، لكن مؤشر الميدان على أية حال كان متجهاً نحو الهبوط. وأما عن التكلفة فلا يمكن الزعم أيضاً بأن وقف القتال "مؤقتاً" وبصورة جزئية (يبقى الدفاع حقاً مصاناً) هو أعلى تكلفة، لأن غدر العدو أو رعاته يعني انهيار الهدنة واستئناف القتال على الفور، بينما يمثل استمرار الهدنة ونجاحها فرصة لإعادة ترتيب الصفوف واستجماع القوى ووضع استراتيجية أكثر إحكاماً لجولة القتال التالية.

وفي ما يتعلق بالتحالفات، فقد بدا جلياً لجميع السوريين أنها ليست مصدر قوة منفردة، والحليف مهما كانت له مصلحة في نصرتك لن يذهب معك إلى كل مكان، لكن يبقى للحلفاء أهمية كبرى في تخفيف حدة وأثر التوافقات الدولية علينا ومنعها من تحييدنا، وتحالفاتنا تمثل هامشاً، يضيق أو يتسع حسب الظروف الدولية، نستطيع المناورة من خلاله. يبقى ميزان القوة بين الثوار والعدو الأسدي وحلفائه مختلاً لصالح العدو، بفضل التدخل الروسي والتواطؤ الأميركي مع هذا التدخل إلى جانب عجز الأصدقاء عن تقديم المساعدة الكافية لترجيح كفة الثوار سياسياً وعسكرياً، وأضف إلى جميع ما سبق اضطرار الفصائل في حلب على سبيل المثال للقتال على 3 جبهات متفرغة تقريباً لقتالهم، قوات الأسد وداعش ومليشيات صالح مسلم، وهذا وضع لم يسبق أن انتهى بانتصار الطرف الأضعف في هذه المعادلة قبل تحييد أو تسكين بعض الجبهات على حساب جبهات أخرى.

وبالنسبة لنقطة البحث الثانية، فإن الفائدة المرجوة من أي هدنة هي فائدة عسكرية بالأساس، كما ذكرنا، ولكن يمكن أن توظف أيضاً سياسياً في حشد الموقف الدولي قدر الإمكان ضد العدو وتحميله مسؤولية العدوان وتحديه لجميع الاتفاقيات ونكثه بتعهداته، أو عدم السماح للموقف الدولي بأن يحتشد ضدنا لمصلحة العدو الأسدي، وعدم تركه نهبة لعلاقاته وتحالفاته. يضاف إلى هذا المطلب توفر فرصة إعادة الاعتبار للمجالس المحلية والإدارة المدنية للمناطق المحررة وحتى المحاصرة – التي سينتهي الجزء الأصعب من حصارها حكماً بفعل دخول المساعدات – وهي الفرصة التي توفرت في بداية الثورة، لكنها دمرت بفعل القصف الممنهج المدروس من خلال براميل الأسد ومؤخراً بنيران الطائرات الروسية، وتضافر عوامل عديدة بينها استهتار أبناء الثورة والمعارضة السياسية أنفسهم بهذه التجربة الفريدة، وعدم قناعة الفصائل العسكرية بضرورة التزامهم بالميدان وترك الإدارة للمدنيين، أدت بمجملها إلى اضمحلال دور المجالس في معظم، لكن الفرصة ما زالت قائمة لاستعادة هذه التجربة والبناء على ما بقي منها حتى الآن.

في نقطة البحث الثالثة حول الهدنة، والتي تحمل بصمات ما يسمى بالمجتمع الدولي، أو النظام الدولي القائم على أن أصحاب "الفيتو" بمجلس الأمن قادرون على فرض إرادتهم على أطراف محلية في دولة لا تحظى بعضويته ولا تتمتع بهذا الفيتو، ولكن على نحو نسبي وخاضع للتغير، الأمر الذي يجيب على سؤال: لماذا علينا أن نبحث مدى صلاحية الهدنة وكيفية تسخيرها في مصلحتنا، فهي تمثل إرادة دول مدججة كما ذكرنا في بداية المقال بمنظومة قوانين دولية بل وجيوش عسكرية تتيح لها التدخل إذا توفرت المصلحة والغطاء، وإذا كانت مصالحهم أمراً خارج متناول أيدينا إذ لا يمكن تغيير معادلات الجيوبوليتيك بل يمكن توظيفها، فإن الغطاء القانوني والسياسي الظرفي أو أحدهما يبقى قرارنا أن نمنحهم إياه أو نسحبه منهم.

لن أطيل في استعراض حسابات جميع الأطراف في فرض عملية "وقف الأعمال العدائية"، كما يفضل الجانب الأميركي تسميتها، ويكفي أن نذكر أن سورية بالنسبة للأمن القومي الأميركي هي مسألة هامشية، مقارنة بمصر وإيران وتركيا وإسرائيل، ولذلك لا يشعرون بأهمية الإسراع في فرض حل مهما كانت مصلحتهم منه، لأنها تبقى مصلحة ثانوية، لكن استمرار الصراع على نحو ما كان بحد ذاته مصلحة أميركية في الإقليم، وعملية استنبات داعش، بغض النظر عن الفاعلين في هذه العملية، مثلت هدية الشرق الأوسط الكبرى لمصالح واشنطن في العالم. يبقى أن الجدية التي يبدونها في فرض الهدنة تخضع لحسابات الإدارة الأميركية الحالية التي تسعى لتسليم الملف السوري للإدارة التالية قائلة إنها أنجزت شيئاً، عبر نقل الصراع إلى مرحلة أخرى، ليست مرحلة السلام والديمقراطية بطبيعة الحال، بل مرحلة سيناريو قابلية التقسيم (عند اللزوم) وتوحد الجهود للانقضاض على "داعش"، العدو البالون الذي نفخت فيه سلوكيات ممنهجة إقليمية ودولية، لتبدأ دورة جديدة من ماراثون الاستنزاف.

أما عن ملحق الشروط الخاصة بالهدنة، والتي صدرت عن الاتفاق الأميركي الروسي، ففيها ثغرات ليست في مصلحتنا بكل تأكيد، وهنا كان للهيئة العليا للمفاوضات دور موفق في كشفها عبر مذكرتها التي ردت بها على الهدنة المقترحة، معلنة موافقتها مع الإشارة إلى الثغرات واشتراط العمل على تلافيها لإنجاح الهدنة، ويمكن في هذا الصدد مراجعة المذكرة، علماً بأن الثغرات المذكورة ليست جميعها على مستوى واحد من الضرر، وبعضها نقاط غير إشكالية، ولكن من إتقان الهيئة المثير للإعجاب تكبيل كل إرادة دولية مشابهة بأكبر عدد من القيود وإبراز ثغراتها ونقاط ضعفها، وهو هامش للمناورة، لا يجوز التفريط فيه مهما بدا هامشياً، فبالتراكم يبنى كل شيء وبإهمال الأمور الثانوية بالكلية لا يبنى شيء.

أخيراً، ليس هدف المقال تقديم دراسة مستوفية الأركان للحالة الراهنة، فهذا متعذر في عجالة كهذه، ولكن الهدف الرئيسي رسم الخطوط العريضة لكيفية تقييم الأمور، وبناء تصور يستوعب تعقيدات المشهد، وقبل كل شيء التشجيع على إجراء وقفة مع الذات، للوقوف على مناحي القصور والضعف والإمكانات والحجم الذي نتحرك به، لا سيما أن أبناء الثورة خاصة الفصائل العسكرية لم تبد حتى اللحظة شعوراً كافياً بالمسؤولية التاريخية في توحيد صفوفها عبر الاندماج الكامل، وضرورة تقديم نفسها كبديل ممكن ومنطقي، ولو لم يكن مقبولاً من بعض الأطراف الدولية، في ظل وجود إطار سياسي وعسكري جامع للثورة، ويبدي قدراً كبيراً من المسؤولية، وهو الهيئة العليا، والكف عن تفسير التطورات الدولية من منظور نرجسي بحت، لأن هذا المنظور يحجبها عن الرؤية الواضحة التي تمكنها من اتخاذ القرارات الصائبة أو الأقرب للصواب في لحظات تاريخية نادرة.

(سورية)

المساهمون