بدأ الشهر الثالث من هبة الغضب الفلسطينية، باستشهاد الطفل مأمون الخطيب (16 عاماً) بعد محاولته طعن جندي إسرائيلي على مفرق مستوطنة، مُقامة على أراض جنوب بيت لحم، جنوب الضفة الغربية المحتلة. كما بدأ الشهر باستشهاد الفتاة مرام حسونة (20 عاماً) خلال محاولة طعن جندي على حاجز عناب، قرب طولكرم، شمالي الضفة الغربية، ليرتفع عدد الشهداء إلى 108 فلسطينيين على الأقل، منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى أول من أمس، استشهد 62 منهم خلال تنفيذ عمليات مقاومة أو بادّعاء تنفيذ عمليات. ويأتي هذا في ظلّ معطيات تؤكد أن الهبة مستمرة على الرغم من التصعيد الإسرائيلي، وعدم وجود أي دعم أو غطاء رسمي فلسطيني لها، وانكفاء الفصائل، في ظلّ اتخاذ الهبة شكلاً مغايراً لما كانت عليه الانتفاضتان الأولى (1987 ـ 1993) والثانية (2000 ـ 2005).
ويرى محللون ومراقبون أن أبرز سمات الهبّة الشعبية الآنية، يكمن في العمليات الفردية التي ينفّذها شبان وأطفال، وبات من المستحيل منعها بسبب الخلفية غير التنظيمية لأغلب المنفّذين. وتُشكّل مشاركة الأطفال دون سن 18 عاماً، علامة فارقة في الهبّة، فقد استشهد 24 طفلاً منذ بداية الهبة، 17 منهم قتلتهم قوات الاحتلال، خلال تنفيذ أو محاولة تنفيذ عملية طعن أو على خلفية الاشتباه بعملية، كما هو الأمر مع الخطيب الذي كانت عائلته تعتقد أنه في مدرسته، قبل أن تُفاجأ بخبر استشهاده، فيما قتلت قوات الاحتلال 8 أطفال خلال المواجهات، وهم يلقون الحجارة، ومنهم بالغاز المسيّل للدموع.
في السياق، ترتفع الأصوات الداعية لتحييد الأطفال ومنعهم من الانخراط بعمليات الطعن قرب حواجز الاحتلال، التي تنتهي غالباً باستشهادهم، من دون أن يوقعوا قتلى في صفوف الاحتلال. وعلى الرغم من اختلاف خلفيات هذه الأصوات، ما بين أصوات حريصة على الأطفال الذين لم يطلب منهم هذا القدر من التضحية، ويجب أن يعيشوا طفولتهم لأن المقاومة لتحرير فلسطين ستنتظرهم، وما بين أصوات تدسّ السم بالدسم عبر الترويج بأن عقلية الفلسطيني تتقبّل التضحية بالأطفال.
اقرأ أيضاً: "اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين".. هبة شعبية ويأس دولي
في هذا الصدد، تُوجّه أصابع الاتهام إلى العائلات، والفضائيات التي تغطّي يوميات الهبة بشكل كبير، كما إلى المجتمع بتهمة التحريض، بغية تبهيت الهبة وتحويل الأنظار نحو قتل الأطفال كنتيجة، من دون التطرق إلى السبب الأساسي وهو الاحتلال.
ومقابل هذه الأصوات، يعود انخراط الأطفال بعمليات المقاومة لثلاثة أسباب رئيسية، أولها تصاعد الإجرام الإسرائيلي من قتل وتنكيل بالفلسطينيين حتى بعد قتلهم وهدم بيوتهم، وثانياً لعدم وجود أي دور للقيادة الفلسطينية على الأرض لمنع ما يجري أو إظهار أي دليل لنيتها حماية المواطن الفلسطيني، وثالثاً حالة العجز الكبيرة التي تعيشها الفصائل الفلسطينية التي تشهد انكفاءً سياسياً واضحاً، ما جعل انخراط الأطفال والمراهقين في المقاومة أمراً سهلاً.
الإجرام الإسرائيلي المتصاعد يعكس نفسه يومياً بأشكال مختلفة، ويتجلّى أبرزها في تسجيلات فيديو وصور، يتم تسريبها من جنود الاحتلال، بهدف خلق ردع لدى الفلسطينيين. لكن بدلاً من الردع الذي يسعى له الاحتلال، خلّفت هذه التسجيلات غضباً فلسطينياً كبيراً، عبّر عنه الأطفال والشبان بطريقتهم في محاولات طعن الجنود على الحواجز العسكرية. وفي اعتقاد الاحتلال أن عمليات القتل أو التمثيل بجثث الشهداء، وتركهم ينزفون لساعات على رصيف حاجز عسكري، سيكون رادعاً، غير أن الردّ عادة ما يأتي بعملية طعن أو دهس، لا ردع.
عدا ذلك، يسعى الاحتلال إلى إبراز انتهاكاته والإمعان في ضرب الفلسطينيين، من خلال الصور التي ينشرها جنود الاحتلال، أكان بطاقات الشهداء وهي مغطاة بدمهم، أو صورة فتاة تنزف وهي ملقاة على الأرض حتى الموت. كما باشر الاحتلال في تسريب أشرطة فيديو، كالشريط المُسرّب من داخل أقبية التحقيق، الذي يُظهر محققاً إسرائيلياً وهو يُنكّل بالأسير الطفل أحمد مناصرة. كما سُرّب شريط فيديو آخر في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على يد أحد جنود الاحتلال، وهو يحقق مع الشهيد محمد الشوبكي في لحظاته الأخيرة، قائلاً له "من أرسلك"؟ بينما يردّ الشهيد وهو يلفظ أنفاسه "الله.. الله أكبر"، ويكرر الجندي" اترك الله على جنب، وقل لي من أرسلك". بعد ذلك قضى الشوبكي شهيداً، متأثرا بإطلاق وابل من الرصاص عليه أمام مدخل مخيم الفوار للاجئين الفلسطينيين قرب الخليل. كل هذه الصور والفيديوهات أصبحت ذاكرة للهبة الفلسطينية، وخزّان غضب متزايد لمئات آلاف الشبان والأطفال.
أمام مشاهد القتل اليومية، تقف القيادة الفلسطينية عاجزة عن حماية شعبها، بل إن العمليات العسكرية التي يقوم بها الاحتلال داخل المخيمات والمستشفيات والجامعات الفلسطينية، والتي تُخلّف أسرى وشهداء وجرحى، في المناطق التي من المفترض، وفقاً لاتفاقية "أوسلو" أنها مناطق "أ" تابعة للسلطة الفلسطينية، أدت إلى ازدياد الهوة الكبيرة بين الشعب والسلطة، وأمعنت في إظهار صورة القيادة العاجزة عن تحريك عناصر الأمن لحماية الجرحى في المستشفيات على أقل تقدير.
ولعلّ السلطة بأعلى مستوياتها باتت تمارس دور المؤسسات الحقوقية في توثيق جرائم الاحتلال، بعد أن فقدت قدرتها على الفعل. ويأتي قيام الرئيس محمود عباس في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، بتقديم خمسة ملفات حول جرائم الاحتلال إلى وزير الخارجية الأميركية جون كيري، حين التقاه في مقرّ الرئاسة برام الله، أكبر دليل على أن السلطة باتت تمارس العمل التوثيقي وتقديم الشكاوى فقط.
وتُدرك حكومة الاحتلال أن القيادة الفلسطينية لا تقف بأي حال من الأحوال وراء هذه العمليات الفردية ولا تمنحها أي غطاء، وهو ما يُفسّر عدم قيام الاحتلال بفرض أي عقوبات على السلطة الفلسطينية، كما درجت العادة، لأن المقاومين غير المتوقعين والمعرّفين لدى أجهزة الأمن الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، لا يمكن إيقافهم.
اقرأ أيضاً: الإعلام الإسرائيلي وأكاديميون يحرّضون ضد التجمع الوطني والمفكر بشارة
وتظهر الأعمار والخلفيات السياسية للشبان المنخرطين في المقاومة بالهبة الشعبية الحالية، تحوّلاً كبيراً، إذ إن أعمار الغالبية العظمى من الشهداء الـ108 بالعقد الثاني من العمر. وتكشف الأرقام أنه منذ الهبة الشعبية نفّذ المقاومون أكثر من 100 عملية طعن أو دهس، استشهد على أثرها 62 شخصاً، بينهم 17 تحت سن 18 عاماً، و36 بين سنّ الـ20 وسن الـ30، وتسعة شهداء فوق سنّ الـ30.
ليس الدور الأمني الفلسطيني الرسمي من يقف عاجزاً فحسب، بل الدور الفصائلي أيضاً، إذ باتت الفصائل الفلسطينية خارج سياق ما يجري بشكل شبه كامل، ويقتصر دورها منذ نحو شهرين، على التسابق لطباعة الملصقات والصور للشهداء، في محاولة أخيرة للإبقاء على موطئ قدم في الشارع الفلسطيني.
في بيت الطفل علاء حشاش بمخيم عسكر الجديد للاجئين الفلسطينيين قرب نابلس، الذي استشهد على حاجز حوارة العسكري، جنوبي نابلس، بزعم محاولته تنفيذ عملية طعن لجندي إٍسرائيلي في 23 نوفمبر الماضي، كان مشهد المنزل المتواضع والصغير، الذي امتلأ بملصقات الفصائل الفلسطينية، يعكس الحالة الفلسطينية بأكملها.
البيت الضيق، المتواضع، تكدّست على جدرانه الفقيرة أكثر من سبعة ملصقات للفصائل الفلسطينية، تشيد بالطفل الشهيد، الذي أُعدم بأكثر من عشر رصاصات، بحسب شهود عيان، على حاجز حوارة، بزعم محاولة طعن جندي.
والد علاء الذي كان ينتظره في المخبز الذي يعمل فيه بعد اتصاله به صباح 23 نوفمبر، لم يرَ طيف ابنه، الذي ترك المنزل بعد الاستيقاظ صباحاً والاستحمام، قبل أن يُصلّي، ويرتدي بذلة رياضية جديدة، ويذهب إلى حاجز حوارة، لتُفيد الأنباء لاحقاً عن استشهاده.
ويتابع الأب: "دخلت بعد كل هذا التفتيش إلى غرفة ضابط الاستخبارات، وقدّم لي القهوة، فرفضت أن أشربها، ثم قال لي أحد الجنود: أنا متأثر مما سأقوله لك، لكن ابنك حاول القيام بعملية طعن، فقام الجنود بقتله، أنا أعتذر لقتله، وأعرف أنه طفل، لكن أوامرنا تقضي بالقتل". يضيف الأب "شعرت أن العالم ينهار من حولي، فقلت له: لماذا لم تصبه برصاصة وتعتقله، لماذا قتلته؟ فأجابني: لدينا قرار بإطلاق النار".
لم يرَ الأب جثمان ابنه، أو السكين التي ادّعى الضابط أن علاء حاول أن يقتل بها الجنود، وما زال الجثمان محتجزاً حتى الآن. ويعتبر الوالد أن "ابني مثل أي طفل كانت تؤلمه الجرائم الإسرائيلية، لكن غياب القيادة والفصائل والتنظيمات الكبيرة، أدى إلى أن يتدخل الأطفال والمراهقون بالمقاومة في هذه المرحلة".
قبل يوم واحد من استشهاد علاء، استشهدت طفلة أخرى من المخيم عينه، على حاجز حوارة العسكري، وتُركت تُنزف حتى الاستشهاد، بعد منع الاحتلال مسعفي الهلال الأحمر الفلسطيني من الاقتراب منها حتى لفظت أنفاسها.
أشرقت طه قطناني، التي لم تكمل عامها السادس عشر، كانت الشهيدة الأولى في مخيم عسكر الجديد، والتي طلبت فيه من عائلتها قبل ليلة من استشهادها سكيناً مسموماً، لكن العائلة اعتقدت أنها مثل أي طفلة أو مراهقة، تُعبّر عن غضبها بالكلام.
اقرأ أيضاً: الاحتلال عاجز عن مواجهة الانتفاضة وأدواته "قديمة"
يرفض الأب الحصول على أي راتب أو مخصص لابنته من أي فصيل أو من السلطة الفلسطينية، ويُفسّر تهافت الفصائل على وضع البوسترات لابنته وغيرها من الشهداء، بأن "جزءاً منه كذب ونفاق، وجزءاً آخر استثمار للدم، وجزءاً أخيراً يقف مع الشهيدة وأهلها".
طفلة أخرى هي هديل وجيه عواد (14 عاماً)، قتلها الاحتلال بأكثر من ست رصاصات في 23 نوفمبر الماضي، بزعم "محاولتها مع ابنة خالها نورهان (16 عاماً) تنفيذ عملية طعن في شارع يافا بالقدس المحتلة". استشهدت هديل وأُصيبت نورهان إصابة بالغة، والعائلة نفسها لا تعرف ملابسات ما حدث، حتى إنها سمعت عن استشهاد طفلتها في الأخبار، في حين كانت تعتقد أنها هي وقريبتها في المدرسة كالمعتاد.
شقيق هديل الشهيد محمود عواد، كان قد استشهد في 29 نوفمبر 2013، خلال تصدّيه لقوات الاحتلال في مواجهات اندلعت على مدخل مخيم قلنديا، شمالي القدس، حيث تعيش العائلة، وحيث يتعرض المخيم لاقتحامات شبه ليلية من قبل قوات الاحتلال، غالباً ما تنتهي بسقوط شهداء أو أسرى في أفضل الأحوال.
حتى الآن العائلة لا تستطيع زيارة نورهان لمعرفة ما جرى مع الطفلتين، وتعتقلها قوات الاحتلال في المستشفى وتمنع عنها الزيارة، فيما بثّ إعلام الاحتلال شريط فيديو مقتضباً ومجتزأ، يُظهر الفتاتين وهما تمسكان بمقصٍّ صغير عادة ما يستخدم في حصص التربية الفنية بالمدرسة.
ويرى مدير "مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي" علاء الريماوي، أنه "عندما صمت العالم، وأصبحت السلطة غير قادرة على حماية الشعب الفلسطيني، والفصائل في دائرة الضعف الكبير في هذه المرحلة، أصبح الطفل والمرأة يدافعان عن أمنهم الشخصي ووجودهم. لذلك نرى عمليات للأطفال غير ناجحة، والسؤال لا يُسأل للطفل بل للقيادة التي يوجد لديها أكثر من مئة ألف عنصر أمن في الضفة الغربية، وتصرف عليهم نحو 44 في المائة من الموازنة العامة، وعندما يتم إعدام شاب داخل المستشفى، يغادر الأمن".
ويتابع في تصريحات لـ"العربي الجديد" قائلاً إن "من يحاكم على قتل الأطفال هو الاحتلال الإسرائيلي، ومن يُحاكَم على عدم وجود منهجية واضحة هي السلطة الفلسطينية، ومن يُحَاكَم على دائرة الارتباك في الوضع الفلسطيني هو أداء منظمة التحرير الغائب".
ورصد "مركز القدس"، حصيلة أعمال المقاومة على الأرض، كالتالي "20 قتيلاً إسرائيلياً، 309 جرحى إسرائيليين، و56 حادث إطلاق نار، و62 طعناً، و31 محاولة أخرى، واعتقال 2033 فلسطينياً في الأراضي المحتلة".
اقرأ أيضاً: الانتفاضة اليتيمة... تخبط ومراوغة