بدا من تطورات أمس أن تونس قد بدأت مبكراً في دفع ضريبة الأحداث في ليبيا وتطورات المشهد العسكري فيها في ظل تزايد التسريبات عن اقتراب موعد التدخل العسكري الخارجي من جهة وعملية تضييق الخناق على المتشددين وخصوصاً عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في أكثر من مدينة ليبية من جهة ثانية. وضع دفع السلطات التونسية إلى اتخاذ إجراءات جديدة عاجلة من بينها إغلاق الحدود مع ليبيا وفرض حظر تجوال في مدينة بنقردان، في حين كانت كلمة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، واضحة في تحديد أبعاد ومخاطر الهجمات المتزامنة التي شهدتها المدينة، عندما قال في كلمة موجهة للشعب، بثها التلفزيون الحكومي، "هذا الهجوم منظم وهو غير مسبوق وربما كان الهدف منه السيطرة على هذه المنطقة وإعلانها ولاية جديدة (ولاية إسلامية)، لكن قواتنا التي توقعت هذا كانت موجودة ويحق للتونسيين الافتخار بها".
اقرأ أيضا هجوم بنقردان:السلطات التونسية تفرض حظر تجوال وسقوط 53 قتيلاً
أجواء حرب
وكانت أجواء حرب سادت في مدينة بنقردان منذ الساعات الأولى لفجر أمس الإثنين بعدما تعرضت المدينة لهجمات عدة متزامنة التوقيت، استهدفت أغلب المؤسسات الأمنية في المدينة فضلاً عن انتشار للمسلحين في الطرقات. وشنّ المسلحون هجمات على ثكنة الجيش، ومقر الحرس (الدرك)، ومقر الشرطة، فضلاً عن العديد من المؤسسات الأخرى، وتوزعوا في بعض الطرقات. وترجح بعض التقارير أن يكون عددهم في حدود 40 مسلحاً أو أكثر.
ويعد هجوم أمس من أكبر الهجمات التي تشنها المجموعات المتشددة على أي من المدن التونسية، إذ كانت عمليات المسلحين في السابق خاطفة وتسعى إلى إيقاع أكبر عدد من الضحايا وتستهدف غالباً دوريات متحركة، أو فنادق ومتاحف سياحية وبعدد محدود من العناصر. لكن هجمات فجر الإثنين بدت مغايرة إن لناحية الهدف أو أعداد المشاركين فيها، فضلاً عن أنها الأعنف التي تواجهها المدينة بعدما كان قد تم قبل نحو خمسة أيام القضاء على خمسة مسلحين وحجز سياراتهم وأسلحتهم، بعد محاصرتهم في المنزل الذي تحصنوا به.
وتشير جميع هذه المعطيات، والتي عززتها كلمة السبسي، إلى أن الهدف من هجوم أمس تمثل في محاولة السيطرة على المدينة من خلال الاستيلاء على أبرز مؤسساتها من دون أن يتمكن المسلحون من تحقيق ذلك، لأن قوات الجيش والأمن والجمارك، استطاعت بسرعة قياسية (في ظرف ساعتين) أن تقضي على عدد كبير من المسلحين. وعاشت المدينة أجواء حرب امتدت لساعات طويلة وترجمت بعمليات التمشيط التي قامت بها تشكيلات عسكرية وأمنية مختلفة، وتتبع وملاحقة الإرهابيين عبر الطائرات أو داخل الشوارع، فضلاً عن دعوة المواطنين إلى البقاء في منازلهم، لتفادي تعرضهم لأي إصابات.
وبحسب بيان للجيش التونسي، فإنه تم قتل 28 مسلحاً على الأقل فضلاً عن القبض على ستة آخرين تمت إصابتهم في المواجهات. كما أعلن عن مقتل 7 مدنيين و6 عناصر من الحرس الوطني وعنصري أمن وطني ووكيل من الجمارك التونسية، الى جانب عدد من الجرحى، فيما تشير أرقام غير رسمية الى مقتل 18 شخصاً بين مدنيين وأمنيين.
وكشف المتحدث باسم الجمارك، لسعد بشوال، لـ"العربي الجديد"، أن عنصر الجمارك الذي قتله المسلحون هو الوكيل أول حسن المنصوري، وهو من سكان مدينة بنقردان، وكان في طريقه إلى العمل بالمكتب الحدودي في جزيرة جربة السياحية. ووفقاً لبشوال فإنه "تم إيقاف سيارة المنصوري من طرف الإرهابيين وعند التثبت من هويته والتأكد من انتمائه للجمارك تم قتله".
إجراءات أمنية عاجلة
ولم يتأخر رد الحكومة التونسية على الهجوم لكنه اتخذ مسارات عدة. وفي ما يتعلق بالحدود مع لبيبا تم اتخاذ قرار بغلق الحدود بين البلدين في معبريْ راس جدير وذهيبة. كما أعلن عن حظر التجول في مدينة بنقردان من السابعة ليلاً الى الخامسة صباحاً. كذلك اجتمع رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، برئيس الجمهورية فضلاً عن اتصاله برئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر، لإحاطتهما علماً بالمستجدات وللتشاور حول الإجراءات الملائمة لمزيد من تأمين المناطق الحدودية الجنوبية الشرقية والتصدي للمخاطر. كما دعا رئيس الحكومة وزيري الدفاع الوطني فرحات الحرشاني والداخلية الهادي المجدوب، إلى اجتماع عاجل لمتابعة تقييم تطور الوضع قبل أن ينتقل الوزيران إلى مدينة بنقردان لقيادة العمليات وطمأنة المواطنين، وهو ما يشير إلى خطورة الوضع على الرغم من السيطرة الأمنية.
ارتدادات الوضع الليبي
ويبدو أن مدينة بنقردان تدفع ثمن الضربات الكبيرة التي تتعرض لها المجموعات المسلحة في ليبيا، والتي تحاول نقل المعركة إلى تونس أو الرد بعمليات انتقامية، وهو السيناريو الذي كانت تخشاه تونس وتحذر منه منذ بدء التلويح الغربي باحتمال تبني خيار التدخل العسكري.
لكن الخطر لا يقتصر على بنقردان وخصوصاً أن المتشددين بدأوا يكثفون من نشاطهم في تونس على جبهات مختلفة، إذ أعلنت وزارتا الداخلية والدفاع، في بيان مشترك، أن الوحدات الأمنيّة تلقت ليلة 4 مارس/آذار الجاري معلومات من قبل سكان دوّار الرّحايميّة زغمار في منطقة جلمة بمحافظة سيدي بوزيد "تفيد بأنّ حوالي 40 شخصاً يشتبه في كونهم مجموعة إرهابية نزلوا من جبل المغيلة المحاذي للمنطقة المذكورة حوالي السّاعة العاشرة والنصف ليلاً واستولوا على المؤونة وأغطية صوفية". وقامت وحدات الحرس والجيش بتمشيط دوائر ومحيط المنطقة. كما جرت عمليات قصف بالمدفعية للأماكن المشتبه في تحصن المجموعة المذكورة بها. وهو ما يعكس تحرك هذه المجموعات في نفس الوقت، ومن أماكن مختلفة، بسبب تضييق الحصار عليها ونفاد مؤونتها، وخصوصاً بعدما تمكنت قوات الجيش من اكتشاف مخابئ عدة لها في الأيام الأخيرة وقتل عدد منها.
وكانت تونس قد سعت، طوال الأشهر الماضية، إلى محاولة الحد من تأثير الوضع في ليبيا عليها وخصوصاً لجهة إحباط أي محاولة لتسلل عناصر متشددة أو تمرير السلاح. وأنشأت ساتراً ترابياً وخندقاً على الحدود مع ليبيا. كما أوكلت فرق عسكرية عدة مهمة مراقبة الحدود في انتظار تثبيت نظام مراقبة إلكتروني بدعم ألماني وأميركي.
وكان وزير الدفاع التونسي قد أعلن أول من أمس (الأحد) عن سلسلة من الإجراءات الأمنية، إذ أكد "أن طائرات بدون طيار ستراقب الحدود البرية والبحرية مع ليبيا وذلك في إطار اتفاقات مع دول شقيقة وصديقة". كما لفت إلى أنه تم الانتهاء من إعداد المنظومة الدفاعية بالجنوب مشدداً على أنها منظومة متكاملة تشمل الساتر الترابي والخنادق التي تمتد من راس جدير إلى الذهيبة. كذلك أشار إلى أنه ستتم مراقبة الحدود الكترونياً وحرارياً وسيتم وضع كاميرات المراقبة بمساعدة أميركية - ألمانية، في انتظار وصول تقنيين من البلدين في الأسابيع المقبلة للانطلاق في إنجازها.
كما أشار وزير الدفاع، في حديث إذاعي، إلى أنه يجري التحضير لوضع إطار قانوني في إطار العلاقات الثنائية التي تربط تونس بالدول الصديقة، ما يسمح بتواجد بواخر عسكرية وقوات أجنبية وتقنيين في تونس من أجل تكوين القوات العسكرية التونسية. وأكد الحرشاني أن هذه الأطر القانونية تسمح أيضاً بإرسال قوات تونسية إلى الخارج في إطار العلاقات الثنائية بين تونس ودول أخرى، مشيرا إلى أن الوزارة لا تزال بصدد مناقشة هذا القانون في انتظار عرضه على أنظار مجلس نواب الشعب.
في غضون ذلك، يؤكد الخبير الأمني، العقيد السابق بالحرس الوطني، علي زرمديني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ الهجوم الذي حصل في مدينة بنقردان "كان منتظراً ومخططاً له حيث إن جل التحقيقات التي أجريت مع العناصر الإرهابية الموقوفة لدى الأمن التونسي، أشارت إلى وجود مخطط للتوسع". ويوضح الخبير الأمني أنّ "نظرية التوسع والتمدد في الجنوب التونسي قائمة لدى الجماعات الإرهابية، وأن هناك نية للسيطرة على بنقردان، لأنها مفتاح التقدم والتوغل والتوسع الى بقية المدن، نظراً لموقعها الاستراتيجي، والترابط بين البحر والبرّ وامتدادها الجغرافي على كامل الجنوب". ويلفت زرمديني إلى أنّ "المجموعات المتشددة كانت تنوي إقامة إمارة إسلامية في الجنوب حتى أنه تم اختيار بنقردان منذ فترة وهي ولاية معلنة لديهم". ووفقاً لزرمديني، فإن الهجوم الذي استهدف المدينة فجر أمس يأتي ضمن هذا السياق بعدما تم الإعداد اللوجستي وتوفير السلاح. ويعتبر الخبير الأمني أن مخازن السلاح المكتشفة في المدينة تؤكد مخطط هذه المجموعات. ويشير زرمديني إلى أنه "تم إعداد الأرضية وتجميع العنصر البشري لتسهيل الهجوم الذي يعتبر محاولة لوضع اليد على المدينة".
من جهته، يؤكد الخبير الأمني، مازن الشريف لـ"العربي الجديد" أنّ العملية تعتبر نوعية ومتطورة، "اذ تم استخدام مجموعة كبيرة من العناصر الإرهابية". ويشير الشريف إلى أن "ضرب مدنيين، بدون استثناء، يعني أننا دخلنا مرحلة الإرهاب الأسود"، مبيناً أن الثابت من هذا الهجوم "هو التحضير لحرب حقيقية على تونس، فليس الجنوب فقط هو المعني بالسيطرة، بل الدولة ككل". كما يلفت إلى أنّ "هذه المجموعات لا يهمها بكم شخص ستضحي 20 أو 100 لأنها بدأت في الحرب". ووفقاً للشريف فإن ما جرى في بنقردان "حلقة أولى ويجب أن ننتظر حلقات أخرى مماثلة"، مؤكداً أن جهوزية الأمن والجيش ساهمت في السيطرة على الوضع وتقليص الأضرار، منبهاً إلى أنّ "المعركة لن تكون بسيطة ويجب الحذر أكثر".
اقرأ أيضاً السبسي يدعو أهالي الجنوب التونسي لمساندة الدولة ضد "الإرهاب"