النوبة.. سدّ أمام قافلة العودة

23 نوفمبر 2016
آثار غارقة في جزيرة فيلة بالقرب من أسوان،1971
+ الخط -

"لا زرع، لا حطب للخبيز، لا شيء مطلقاً سوى عواء الذئاب الجائعة والعقارب، ونحن أيضا كنا جوعى، مرضى فقراء". لعلها النبوءة، أو حين يعيد التاريخ نفسه بطريقة درامية، تلك المقاطع كتبها الروائي النوبي إدريس علي (1940-2010)، في سيرته الذاتية "تحت خط الفقر"، واصفاً أوضاع النوبيين المصريين في ستينيات القرن الماضي، عندما قررت الدولة المصرية تهجيرهم إلى "وادٍ غير ذي زرع"، في صحراء قاحلة بعيدة عن النيل والحياة، بذريعة بناء السد العالي، لتغرق قراهم وأحلامهم في لجّة السد، وبعد مرور أكثر من خمسة عقود، تعود "العبارة" إلى موطئها!

عشرات الناشطين النوبيين يؤمّون مسيرة سلميّة، السبت الماضي، نحو ضفاف السد تحت مسمى "قافلة العودة النوبية" فتحاصرهم قوات الأمن في الصحراء، تحديداً في الكيلو 16 شمال جنوب السد، الذي رغم أهميته لمصر ابتلع أراضي واسعة كان يسكنها المصريون النوبيون ومسّ بمواقع تاريخية. ويتم قطع كل وسائل الحياة عنهم. هناك في العراء حيث "لا شيء مطلقاً سوى عواء الذئاب الجائعة والعقارب" وبعض من الغناء زاداً للمسيرة. 

كان لافتاً ذلك الفيديو الذي تداوله المغرّدون على وسائط التواصل الاجتماعي، حيث حرص أعضاء المسيرة على إقامة حلقات الغناء والرقص النوبي (أراجيد) كردٍّ على اعتراض مسيرتهم، في الصحراء، فرفعوا عقيرتهم بالغناء الذي يمكن أن يقول "كل شيء" في مواجهة السلاح.


خمسة عقود ما قبل القافلة
الناشطون النوبيون الذين أمّوا المسيرة نحو المناطق النوبية التي هجّروا منها، في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بغرض بناء السد العالي، وبتعهّد عودتهم بعد استقرار منسوب الماء، ما زالوا يطالبون بـ "حقّ العودة" إلى ضفاف البحيرة.

لا سيّما بعد صدور القرار رقم 444 الذي عرض أكثر من 110 آلاف فدان من الأراضي النوبية للمزاد العلني، مخالفاً بذلك مواد الدستور الأخير الذي ينصّ (المادة 263) على التزام الدولة بتنفيذ حق عودة النوبيين لأراضيهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، ويقرّ أن لهم الأولوية في تملّك الأراضي.


الفن في مواجهة السلطة
ارتبطت بداية حراك النوبيين ضد تغوّل الدولة على أراضي وثقافة أهل النوبة - تاريخياً - مع عمل أدبي عُدّ أيقونة لنضالهم، وهو رواية "الشمندورة" للكاتب النوبي محمد خليل قاسم، (صدرت طبعتها الثانية قبل أيام عن دار "الكرمة") وهي الرواية التي كتبت في أوائل ستينيات القرن الماضي داخل معتقل الواحات، حيث قضى قاسم (1922-1968) أكثر من خمسة عشر عاماً بين السجون والمعتقلات، ناذراً عمره للقضية التي آمن بها، ليس باعتباره ابناً باراً للنوبة فحسب، بل لليسار المصري أيضاً. حيث كابد مشقات المعتقلات بالكتابة على "أوراق البفرة" (تستخدم للفّ السجائر) وتهريبها إلى خارج الأسوار.

لم يكن قاسم استثناءً في مسيرة المثقفين النوبيين المؤمنين بعدالة قضيتهم وبتأثير الفن والأدب، بل تبعه في ذلك عدد كبير من الأدباء على رأسهم الروائي حجاج أدول (1944)، الذي قدّم للمكتبة العربية مؤلفات أدبية مختلفة بين الرواية والقصة القصيرة والدراسات المعمقة، تدور جميعها حول موضوعات القضية النوبية: حضارة وتراثاً، فضلاً عن مسيرته النضالية الطويلة لتنفيذ حق العودة واعتراف الدولة بالخصوصية الثقافية والهوياتية للنوبيين المصريين في أقصى الخارطة. وهي ذات الثيمة الإبداعية التي اعتمد عليها إدريس علي، صاحب "دنقلة"، "وانفجار جمجمة" وغيرها من المؤلفات الإبداعية.

الشاعر الشاب رامي يحيى هو أيضاً نموذجٌ آخر، في الجمع بين العمل الإبداعي والحقوقي للنوبيين المصريين، وهو أحد أنشط الشخصيات في الدعوة لـ"قافلة العودة" بجانب الروائي حجاج أدول والمغنّي أحمد إسماعيل.

وقد أصدر يحيى المعروف "بالمواطن رامي" مؤخراً مجموعة قصصية بعنوان "المواطن إسود"، كما يكتب بشكل مستمر مقالات صارخة حول التعاطي العنصري مع المواطن النوبي في مصر، كما يعتمد على العامية المصرية في معظم كتاباته فضلاً عن مجموعاته الشعرية.


التغريد داخل العش المصري
كالكثير من المبادرات لا تزال "قافلة العودة النوبية" تواجه حروباً لا هوادة فيها، من قبل وسائل الإعلام المصرية، التي وصفت "المسيرة" بالكثير من النعوت، ليس أقلها حياء وصف "الانفصاليين".

وهي تهمة لا تصمد أمام الواقع كما يقول "المغرّدون" على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث حرص الناشطون على تفنيد كل تلك التهم، بالأدلة الدامغة، مؤكدين أن مفردة "الانفصال" غير واردة تماماً في قاموس النضال النوبي، وأن تغريدهم ظلّ لأكثر من خمسة عقود داخل العش المصري، الأمر الذي أكسبهم أرضية لدى الناشطين والأدباء المصريين الذين عبّر عدد منهم عن تضامنه مع القافلة، مثل الناشر محمد هاشم، صاحب دار "ميريت"، والناشط الحقوقي جمال عيد، والبرلمانية السابقة جميلة إسماعيل وآخرين.


المساهمون