النقد.. عار عليك إذا فعلت

23 ابريل 2015
+ الخط -
قديماً، حين كان النقد يتوجه إلى بعض أشكال "المقاومة" وتياراتها، كان الرد على تلك الانتقادات يأتي غالباً ما فحواه عبارة ساذجة وكسولة واحدة وهي: أليس الأولى انتقاد "إسرائيل"؟ وهذه العبارة لم تكن رداً من العامة فقط، بل ممن يحتسبون أنفسهم على المثقفين أو العاملين في الحقل السياسي السوري، وليأتي بعد هذا الرد سيل من الاتهامات والتخوين والتشكيك بالانتماء والوطنية، رغم قول من انتقد تلك "المقاومة" أن "إسرائيل" باتت معروفة ومفضوحة بإجرامها وبمخططاتها التوسعية على حساب أي شيء.

حديثاً، وفي خضم الربيع العربي ومنه الثورة السورية العظيمة، تأتيك النماذج ذاتها وبالعقلية الساذجة الكسولة ذاتها، لترمي بوجهك عبارة: أليس من الأولى انتقاد النظام السوري؟ ذلك حين توجيه أصابع الانتقاد إلى بعض أطياف الثورة وتياراتها. وهنا نلاحظ أمراً حيوياً آخر، أن الخلاف ليس على ما يتم نقده بل على من يتم النقد، وأن جذرية هذا الأمر هي العقلية التقديسية والذهنية الإقصائية الشمولية. وفي مفهوم النقد وأدواته، يقول المفكر السوري الراحل إلياس مرقص: المعرفة التي لا تعي ولا تريد نقداً ليست معرفة حقّة، النقد ليس هجاءً ولا رثاء، ليس فخراً ولا مديحاً، وحين ممارسته على هذه الشاكلة يصبح النقد حماقة، نقد الذات هي مهمتنا العليا وهي دافع ومحرك ورافع لهذه الذات.

نعم، النظام السوري وإذا ما صح توصيفه بنظام، فهو ليس إلا طغمة مافيوية حاكمة، وتاريخها الأسود يثبت عبر محطاته كلها عقلية طائفية مافيوية، وهذا المعطى واقعي وثابت، وما استجد في المشهد السوري وهو ما يستأهل النقد، هو ما يشوب ثورة الشعب من أجل تحقيق الحرية والكرامة من أخطاء أو انحرافات، فحين يتلفظ أو يسلك بعض الأفراد أو التشكيلات أو التيارات المحسوبة على الثورة ألفاظاً أو سلوكيات لا تنسجم مع مطالب الحرية والكرامة سواءً أكانت هذه الأفراد أو التشكيلات أو التيارات مدنية أم سياسية أم حتى عسكرية فإنها بذلك تستدعي التوقف عندها ونقدها باستمرار وذلك للأسباب التالية:

1- العمل الثوري لا يشرّع للقائم به أن يكون خارج دائرة النقد وتحت أي ظرف كان.

2- النقد المعرفي الصريح والمباشر هو آلية وقائية تحول دون الانحراف عن خط الثورة الأصيل المنضوي على الحرية والكرامة، عدا أن النقد بحد ذاته كضرورة أو مطلب ينتمي هو نفسه لفلسفة الحرية والكرامة.

3- النقد يعني الوعي والتجديد والإبداع، فجوهر الوعي هو حمل ما هو إيجابي وجديد ونوعي، وهذا يصب في إلغاء تقديس الأشخاص والأيديولوجيات والتشكيلات، ومحاصرة أفق الفكر الشمولي ومحاولات الهيمنة والقسر والرأي الواحد. فصوت النقد البناء عليه أن يعلو فوق صوت المعركة، وأية ذريعة في سبيل الكف أو الحط من قيمة النقد أو لتأجيله هي ذريعة لا تصب في علّة وجود الثورة في تحقيق الحرية والكرامة، بل هي أحد أهم معيقات نيل تلك المطالب.

إن نقد الذات هو الأولوية، ليأتي بعده النقد الموضوعي، وما محاولات التوقف عند النقد الموضوعي فقط إلا لإخفاء ما تحمله الذات من مواقع خلل أو لتمويه واقع هذه الذات أي أن رغم أهمية النقد الموضوعي إلا أن نقد الذات أهم أولوياً.

ولكي لا يتعرض النقد لشطط أو انحراف، عليه أن يكون ممحوراً ومؤطراً بنهج علمي واقعي عياني أي أن لا يكون ذا نزعة مثالية، وأن يكون له أيضاً بوصلته غير القادرة على المواربة والمهادنة، فهذه البوصلة هي مبدؤه وعلة وجوده وهي صراطه المستقيم وأداة تقويمه وتقييمه.

الثورة السورية هي ثورة حرية وكرامة، وكل من لا يخضع نفسه فكراً وسلوكاً لهذين المبدأين فهو مسيء ومعيق لها، وإنه لأمر حيوي أن يشار إلى المسيء والمعيق وإبراز مواضع السوء وتسليط الضوء عليها وتقويمها، وهذا الحيوي لا يستثني أحداً، صغيراً أم كبيراً، فردياً أم جماعياً، مدنياً أم مسلحاً. فالمتلفظ بالطائفية مسيء وممارسها مسيء والإقصائي مسيء، ومن يتاجر بالدين مسيء، ومن يحكم "إمارته" بآليات التسلط والخطف والتعذيب والاعتقال مسيء، وعلى جميع الحريصين على ثورتنا ألا يتركوا مناسبة إلا ويعرّوا هؤلاء المسيئين نقداً، بداية بالتمايز عنهم هوياتياً وترجمة ذلك التمايز سلوكياً، مروراً بالإشارة إلى مواضع الخلل من دون مواربة أو تدليس، فنحن في ثورة ندفع ثمنها دماً وتشريداً ودماراً وتهجيراً وموتاً تحت التعذيب وحصاراً حتى الموت جوعاً، ناهيك أن الواجب والإيمان بثورتنا يحتمان علينا ذلك أولاً، ووفاءً منا لما قدم من وقودٍ لهذه الثورة من أطفال ونساء وشيوخ وشبان وآلام وتضحيات جسام ما زالت تقدم حتى اللحظة من دون كلل أو حسبان ثانياً.

إن الثورة كمفهوم، قائمة كغيرها من المفاهيم على فلسفة وأبعاد، ولعل أهم المفاعيل فلسفة الثورة وأبعادها هو الأخلاقي أولاً والفكري ثانياً فالسياسي ثالثاً ومؤطر لما سبق، أي أن على الثورة أن  تَحمل وتُحدث فرقاً أخلاقياً أولاً وأن تطرح بديلاً أخلاقياً وفكرياً وبالتالي سياسياً، وقد قيل في ذلك: حاذر وأنت تحارب عدوك أن تصبح مثله. وهنا، ليس من الأخلاق أو الفكر بشيء بأن تكون الغاية مبررة للوسيلة، فالثورة كفكر أو ممارسة هي طور انتقالي/ارتقائي للقيم والأفكار، بمعنى أنها تجسيد لمجموعة مبادئ منسجمة، وأن نكون أصحاب مبادئ يعني أن نخضع حياتنا كلها لها، ويبقى النقد أهم وأعتى مفاهيم ووسائل وآليات ضمان تلك المبادئ وصمام أمان لتحقيقها من خلال هذه الثورة العظيمة، وخير ما قيل في هذا المنحى، عبارة كتبت على لافتة رفعت في إحدى التظاهرات جاء فيها: لا تسقط نظاماً وتأتي بمثله... عار عليك إذا فعلت عظيم.

المساهمون