تاريخياً سعر النفط لم يزد إلا بمقدار دولار واحد من عام 1920 إلى 1973، علماً أن الطلب كان يرتفع باستمرار بسبب انتشار الكهرباء، ووسائل النقل بوتيرة عالية. ولكن الاكتشافات النفطية توسعت كذلك. وبقي نفط الخليج دائماً تحت عين الدول العظمى ونظرها، وكل من حاول تغيير الواقع، نزلت عليه اللعنات وأطيح به. ومن هؤلاء رئيس وزراء إيران، محمد مصدّق الذي أمّم شركة النفط الإيرانية، فأُسقط هو وحكومته. وهنالك فرضية تقول إن مقتل الملك فيصل بن عبدالعزيز جاء بعد تهديده بإيقاف إمدادات النفط، إبّان حرب رمضان عام 1973، والتي خلقت أول هزة نفطية.
ومن منا ينسى أهمية النفط جزءاً أساسياً من الاستراتيجية العسكرية لجانبَي القتال في الحرب العالمية الثانية، أي الحلفاء والمحور؟ ومن ينسى أن استعادة رومانيا من هتلر، قبيل نهاية الحرب، قد أثر على إمداداته النفطية، ما دفع به للبحث عن بديل في الصخر الزيتي.
وقبل ذلك، تفاقم صراع الدول الغربية، إبّان الحرب العالمية الأولى، للحصول على امتيازات النفط في منطقة الخليج، بدرجة مثيرة هوليوودية. وقد وقعت بريطانيا العظمى في الفترة 1913-1916 اتفاقيات مع الكيانات السياسية في الجزيرة العربية، لتحديد حريتهم في بيع الأرض، أو تأجيرها، أو تفويضها لأي جهة، مهما كانت، بدون موافقة المندوب السامي البريطاني. ودرسنا في التاريخ أن اتفاقية "الخط الأحمر" التي وقعت بين المملكة العربية السعودية وشركة "ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا" ممثلة بمالكها، جون دي روكنلر، أتت اعترافاً من بريطانيا بفضل الولايات المتحدة عليها، ودعمها لها إبّان الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا وحلفائها.
لم تخضع سلعة في العالم للمنافسات الدولية والمؤامرات والضغوط، وحتى الحروب، مثل سلعة النفط، لارتباطها الوثيق بالثورة الصناعية ومنتجاتها آلية الحركة. وقد وضعت عشرات الكتب عن الذهب الأسود، وتساءل كتّاب كثيرون إن كان النفط نعمة أم نقمة.
ويذكّرنا التاريخ بأن العرب والذين تعاملوا من الإيطاليين، في الوساطة التجارية، إبّان العصور الوسطى، بين الصين والهند من ناحية وأوروبا من ناحية أخرى، قد أثّروا على السلوك السياسي والاقتصادي للدول الأوروبية. وقد كان التجار العرب والإيرانيون يصرّون على أن تدفع لهم أوروبا مقابل التوابل والحرير والورق والشاي والخشب الثقيل والحبر بالمعادن الثمينة، وهي الذهب والفضة. وقد دخلت دول أوروبا في حروب ضد بعضها من أجل السيطرة على مصادر الذهب والفضة. وكذلك دفعت هذه الحالة إلى تمويل الحملات الاستكشافية، للوصول إلى الهند، عبر طرق غير طرق الحرير البرية والبحرية. وباكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، بدأت غزوات على سواحل الجزيرة من البرتغاليين وغيرهم.
وعاد التاريخ يكرر نفسه بعد عام 1973، حين ارتفع سعر النفط في مطلع عام 1974، من دولارين إلى ثمانية دولارات، بعد التهديد بوقف إمداداته من دول الخليج. وحلّت صاعقة الارتفاع على اقتصاد أوروبا والولايات المتحدة، فدخلوا في دورة اقتصادية لم يعرفوها من قبل، وهي ظاهرة الكساد التضخمي، فقد كان من المستغرب أن يجتمع التضخم (ارتفاع الأسعار) مع ظاهرة البطالة، ولكن هذه الدورة حصلت بفعل ارتفاع أسعار النفط والسلع والخدمات المرتبطة به، أو المعتمدة في إنتاجها وبيعها عليه.
ولذلك، جاء رد الفعل من المستهلكين قوياً. فبدء البحث عن بدائل للنفط، ومورس الضغط على الأوبك لكي تتفكك. وعاد الفحم الحجري ليحتل مكانة عالية في الأسواق، بعدما تراجع الطلب عليه بسبب وفرة النفط.
اقرأ أيضاً: الخليج وحرب النفط
ولما ارتفعت أسعار النفط ثانية، في مطلع القرن الحادي والعشرين، ثم هبطت بعد أزمة عام 2008، ثم ارتفع حتى السنتين الماضيتين، رأينا أن كل وسائل الضغط قد مورست، مثل البحث عن بدائل (الطاقة المتجددة وارتفاع الاستثمار فيها)، والإسراع في إنتاج سيارات الهايبرد والسيارات الكهربائية، والتلاعب في أسواق النفط والتأثير في توقعات أسعاره وكمياته، وضرب الفوائض المالية المستثمرة في أسواق الأسهم والبورصات، وحتى شن حروب مدمرة على الدول العربية، والسعي إلى تفكيك بعضها داخلياً.
ولما بدأ الربيع العربي، وتحول إلى حروب، وظهرت تحالفات وانقسامات في المنطقة، وعاد الدب الروسي ليجتاح مناطق في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، وتعنتت إيران في موقفها من المفاوضات النووية، وتدخلت في العراق ولبنان وسورية واليمن. فقد بدا سلاح ضبط أسعار النفط مغرياً. ولا يؤثر تراجع الأسعار على إيران وروسيا فحسب، لاعتمادها الكبير على مبيعات النفط والغاز. ولكن، تتأثر دول أخرى مناوئة للولايات المتحدة، مثل الإكوادور وفنزويلا في أميركا اللاتينية. وصارت المسألة بين بعض المنتجين للنفط تنافسية شرسة، وتحولت إلى مبارزة عض الأصابع ومن يقول "آخ " أولاً.
ولما وقع الاتفاق النووي مع إيران، وبدا وكأنها سوف تعود إلى أسواق النفط بقوة، وسيطرت "داعش" على بعض موارد النفط في سورية والعراق، "وبوكو حرام" كذلك في نيجيريا خلقت سوق سوداء جديدة يباع النفط فيها بأسعار منخفضة، وبكمية يقدرها محللون بحوالى واحد ونصف مليون برميل في اليوم. وهكذا اضطربت الأسعار وتذبذبت من ساعة إلى أخرى.
وتظهر علينا مؤسسات أميركية ذات سمعة، مثل "غولدمان ساكس" أو "ميريل لينش"، لتقول إن سعر النفط ربما يهبط إلى 20 دولاراً، ويقول آخرون إن كميات النفط المخزونة، أو المباعة، لكنها عائمة على سطح الماء داخل ناقلات النفط قد تصل إلى 3 بلايين برميل.
ولكن، في المقابل، هنالك أسباب تتعلق بتراجع معدلات النمو في الدول الصاعدة في آسيا (الصين والهند وأندونيسيا وماليزيا)، وكذلك تراجع الطلب العالمي في الدول الغربية، بسبب الأزمة الاقتصادية هنالك، وحيث أن النفط يقيم بالدولار الصاعد، فإن أسعار النفط تتذبذب معه.
في علم الاقتصاد، الحركة على منحنى الطلب نفسه لا تحدث إلا بفعل السعر، أما انتقال المنحنى كله إلى الأعلى أو الأسفل، فتحدث نتيجة ظروف يفترض أنها لا تتغير في المدى القصير. ولكنها، في عصرنا هذا، تتغير هذه الظروف كل ساعة كالحروب، والعمليات الإرهابية، والتنافسات الإقليمية والدولية، والتقلبات في أسعار السلع والأسواق الرأسمالية (البورصات)، وما لم يجد المنتجون داخل منظمة أوبك وسيلة للتنسيق مع كبار المنتجين الآخرين، سيبقى النفط يتأرجح صعوداً وهبوطاً حول الأربعين دولاراً للبرميل.
اقرأ أيضاً: النفط يتجه نحو دورة انهيار قاسية