النظام يبيع مصر: مصير مجهول لأصول الدولة

07 يوليو 2018
هدم منازل في جزيرة الوراق في يوليو/تموز الماضي (Getty)
+ الخط -
ينصّ الدستور المصري الصادر قبل شهور من تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية، في مادته 32 على أنه "لا يجوز التصرّف في أملاك الدولة العامة". كما تنصّ المادة 34 منه على أنّ "للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقاً للقانون". وبدلاً من إصدار قانون يعزّز حماية الملكية العامة، يهرع النظام الحاكم لاستغلال تلك الأملاك واستثمارها بالتأجير تارة والبيع تارات أخرى، وصولاً إلى إنشاء صندوق سيادي غير خاضع للرقابة، لاستغلال ما يصفه السيسي منذ منتصف العام الماضي، بـ"أصول الدولة غير المستغلة".

فمن المقرّر أن تحيل الحكومة قانون إنشاء الصندوق المسمى "صندوق مصر" إلى مجلس النواب خلال ساعات، بعد حصولها على موافقة قضائية من مجلس الدولة على تفاصيله، في ظلّ ترجيح مصادر نيابية أن يلحق القانون بالدورة التشريعية الحالية، لأن الصندوق الجديد مموّل بمبلغ مليار جنيه من الموازنة الجديدة للدولة.

وعلى الرغم من أنّ تجربة الصناديق السيادية المطبقة بنجاح في بعض دول العالم، تعتمد في الأساس على الفوائض المحققة في ميزانيات الدول لتعظيم الاستفادة منها، إلا أنّ الصندوق السيادي المصري الجديد لا يعنى بفوائض الميزانية لأن الدولة مدينة بالأساس ولا تحقّق أي فائض، بل يعنى فقط باستغلال واستثمار طائفة كبيرة من الأملاك العامة التي من المفترض -دستورياً- أنّ الدولة تديرها بالنيابة عن الشعب، بحجة أن تلك الأملاك في حقيقتها أصول غير مستغلة، وأنّ الدولة عاجزة عن استغلالها بالصورة المثلى.

أمّا الخطير والجديد في آن، فهو أنّ الحكومة بتأسيسها هذا الصندوق ستنقل العديد من الأملاك العامة من حيزها العام إلى الحيز الخاص، وستضفي عليها صفة أنها من أملاك الدولة الخاصة. ومعنى هذا أنّ حصيلة استغلال تلك الأملاك لن تخصص للمنفعة العامة، بل سيعاد تدويرها واستغلالها في أنشطة الصندوق الأخرى التي ستمارس بمعزل تام عن الأجهزة الرقابية.

وتسود الأوساط الحكومية خلافات حول طريقة إدارة الصندوق؛ فوزيرة التخطيط، هالة السعيد، التي تعتبر المشرفة المباشرة على تأسيسه، تميل لتشكيل لجنة حكومية يمثل فيها القطاع العام وقطاع الأعمال العام (الشركات القابضة) والجيش لإدارة الصندوق تنفيذياً، في حين يرى وزراء آخرون أن الحكومة لا تملك الكوادر أو الخبرات الفنية القادرة على إدارة صندوق سيادي بحجم 200 مليار جنيه قابل للتوسّع والزيادة والتشارك مع القطاعين العام والخاص في مشروعات ضخمة. ويحاول هؤلاء الوزراء، ومن بينهم وزيرة الاستثمار سحر نصر، الدفع في اتجاه التعاقد مع شركة أجنبية أو إقليمية متخصّصة في إدارة هذا النوع من الاستثمارات.

وتتخوّف دائرة السيسي الخاصة، وعلى رأسها اللواء محمد عرفان، رئيس هيئة الرقابة الإدارية، من عواقب الاستعانة بشركة أجنبية لإدارة الصندوق السيادي، مثل حدوث مشاكل مالية مع الحكومة المصرية أو مخالفات لشروط التعاقد، ما قد يدخل الدولة في نزاعات مالية وقانونية طويلة ومكلفة، وهو ما يجعل الأمر غير محسوم حتى الآن.

أمّا الأصول غير المستغلة المستهدفة باستغلال الصندوق، فما زالت تعمل على حصرها لجنة عليا شكّلت برئاسة الجمهورية الصيف الماضي وبعضوية ممثلين للرقابة الإدارية والجيش ووزارة قطاع الأعمال العام. إذ تبيّن أنّ معظم الأملاك غير المستغلة عبارة عن عقارات وأراضي فضاء، كانت تحت إدارة الشركات القابضة والشركات التابعة لها، فضلاً عن مصانع ومعامل تم تخمينها منذ بدء برنامج خصخصة القطاع العام في تسعينيات القرن الماضي.

وبحسب تقارير رسمية نشرت العام الماضي عن وزارة قطاع الأعمال العام، فإنّ الأراضي والعقارات غير المستغلة تتجاوز قيمتها تريليوني جنيه (نحو 112 مليار دولار)، علماً أنّ هذا السعر تقديري ولم يتم تسعير تلك الأراضي بمعرفة هيئة الخدمات الحكومية المختصة بذلك. لكنّ الأكيد أنّ هناك الملايين من قطع الأرض الفضاء التي تسعى الحكومة عن طريق الصندوق الجديد لاستغلالها في مشروعات التطوير العقاري لغرض السكن أو السياحة بالشراكة مع القطاع الخاص، الأمر الذي سيعزز تكريس صورة الدولة كتاجر أو سمسار للأراضي التي من المفترض أنها من الموارد الطبيعية التي تعتبر حقاً للأجيال القادمة، ويكلّف الدستور الدولة بالحفاظ عليها واستغلالها في المنفعة العامة، في ظلّ غياب رؤية واضحة عن كيفية استغلال الدولة لعائد الانتفاع بتلك الأراضي، فضلاً عن غياب الرقابة على تصرفاتها.

ويزيد الوضع سوءاً وتصادماً مع الدستور ومقتضيات الصالح العام أنّ الصندوق الجديد سيكون معفى تماماً في تعاقداته من اتباع القواعد القانونية للمناقصات والمزايدات، وستكون كل تعاملاته بالأمر المباشر، ما يفتح الباب لزيادة الشراكات الغامضة غير المراقبة بين أجهزة الدولة والجيش والمستثمرين الخليجيين، وتحديداً الإماراتيين والسعوديين.

ومن الأملاك التي يطمع فيها المستثمرون منذ العقد الماضي والتي ستضم لأملاك الصندوق السيادي؛ الأراضي المملوكة لشركات: "الحديد والصلب المصرية" (بقيمة 500 مليون جنيه)، "النصر لصناعة الكوك" و"النصر لصناعة المطروقات"، "الأهلية للإسمنت بأبو زعبل"، "المصرية للجباسات"، "القابضة للغزل والنسيج" وشركاتها في المحافظات، "القابضة للنقل البحري والبري"، "القابضة للتأمين"، "القابضة للتشييد والتعمير"، "القابضة للأدوية"، "القومية للإسمنت" (منها 800 فدان بحلوان).

ويتسق التركيز على التصرّف في الأصول العقارية للدولة من قبل الصندوق الجديد مع توجه نظام السيسي في استغلال الأراضي لجذب المستثمرين العرب والأجانب ومنحهم مزايا لم تكن لتمنح لهم في عهود سابقة، خصوصاً في ما يتعلّق بإنشاء مشاريع سكنية فارهة أو سياحية في أماكن مميزة جغرافياً في العاصمة والمدن الساحلية.

فمنذ شهر واحد دخل مشروع الاستغلال الحكومي المصري لجزيرة الوراق بالجيزة منعطفاً جدياً بصدور قرار إسناد مشروع عملاق لتغيير المعالم السكنية بالجزيرة تماماً، وإقامة مشروع سكني جديد عليها لهيئة المجتمعات العمرانية التابعة لوزارة الإسكان، بعد عام من الجهود التي بذلها الجيش لإقناع أهالي الجزيرة بالرحيل عنها وتعويضهم بمساكن أخرى، بعد مشادات استمرت أسابيع مع الشرطة.

وبالفعل، سلّمت جميع الجهات الحكومية التي تملك أو تستأجر قطعاً من الأراضي لصالحها في جزيرة الوراق لهيئة المجتمعات، تمهيداً لاستلام الأراضي المملوكة من الأهالي وكذلك من رجال الأعمال كمحمد أبو العينين، بنظام نزع الملكية للمنفعة العامة والتعويضات المالية أو العقارية بوحدات سكنية أخرى في مناطق قريبة.

وتأتي خطوة الورّاق لإطلاق الخطة الحكومية لإعادة استغلال الجزيرة وغيرها من جزر النيل، التي كانت تعتبر منذ عام 1998 محميات طبيعية في أنشطة الاستثمار العقاري، والتي تتضمن تعويض الأهالي المقيمين على أراضي الجزر التي سيتم استغلالها بمساكن جديدة ستقيمها الدولة بالمداخيل الأولية التي ستجنيها من عملية الاستثمار العقاري.

وجاءت، في السياق نفسه، خطوة استثمار أراضي منطقة العلمين بمحافظة مطروح بواسطة شركات استثمار عقاري لما سيسمى بمدينة العلمين الجديدة، وكذلك منح ساحل غرب مدينة بورسعيد للمستثمر العقاري المحلي "عامر غروب" لإقامة ما سيسمى "بورتو سعيد" على أرض كانت مخصصة للنفع العام، وطالما استغلت في عهود سابقة كمصيف شبه مجاني يرتاده الفقراء.


ومنذ شهرين، ألقت الحكومة "بالون اختبار" بتسريب أخبار عن إخلاء حديقة الحيوان التي تقع في منطقة استراتيجية في قلب محافظة الجيزة على بعد خطوات من جامعة القاهرة ومجمع "فور سيزونز" وحي الدقي وحي المنيل، تمهيداً لإنشاء حديقة حيوان جديدة في العاصمة الإدارية الجديدة. ورغم النفي الرسمي لهذه المعلومات، لكن من المعروف أن أراضي حديقة الحيوان التابعة لوزارة الزراعة، مطمع للمستثمرين منذ تسعينيات القرن الماضي، كما أنّ هناك مساحات أخرى تبحث الدولة إعادة استغلالها كانت مخصصة للوزارة المذكورة، كمشاتل ومعامل ومزارع تجريبية، لم تعد مستغلة لأسباب غير معلومة.

أمّا الملف الأكبر الذي فتحته الحكومة سراً خلال الأشهر الستة الماضية، فيتمثّل في استغلال الأراضي والعقارات المخصصة لدواوين الوزارات في وسط العاصمة القاهرة، بما في ذلك الداخلة بمحيط مشروع تطوير القاهرة الخديوية. فمن المقرّر أن تخلى جميع الدواوين الوزارية خلال عامين للانتقال للعاصمة الإدارية الجديدة. وتتجّه النية لاستغلال السواد الأعظم من العقارات والأراضي في مشاريع استثمارية، مثل إقامة الفنادق على المساحات المخلفة بعد هدم المباني، أو تأجير المباني الصالحة للاستخدام التجاري، كمجمع التحرير ووزارتي التموين والإسكان ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، وهي جميعها تقع في محيط ميدان التحرير. علماً أنّه سبق للحكومة تأجير بعض أصولها المخصصة لشركات وبنوك حكومية لم تعد تستخدمها في وسط العاصمة، على سبيل التجزئة، لبنوك استثمارية وشركات وأفراد.

يذكر أنّ القانون الجديد سيجيز لرئيس الجمهورية -بناء على عرض الحكومة- نقل ملكية أي من الأصول غير المستغلّة المملوكة ملكية خاصة للدولة أو لأيّ من الجهات أو الشركات التابعة لها، إلى الصندوق، أو أي من الصناديق التي يؤسسها، والمملوكة له بالكامل.

وسيسمح القانون للصندوق الاستثماري الجديد سلطة ممارسة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية، بما في ذلك المساهمة بمفرده أو مع الغير في تأسيس الشركات أو في زيادة رؤوس أموالها، والاستثمار في الأوراق المالية المقيّدة بأسواق الأوراق المالية وغير المقيدة بها وأدوات الدين وغيرها من الأوراق المالية داخل مصر أو خارجها، والاقتراض والحصول على التسهيلات الائتمانية وإصدار السندات وصكوك التمويل وغيرها من أدوات الدين، وشراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها، وإقراض أو ضمان صناديق الاستثمار والشركات التابعة التي يملكها أو يساهم فيها مع الغير.

كما سيتيح القانون للصندوق التصرّف في الأصول المملوكة له أو الصناديق المملوكة له بالكامل، أو المساهمة بها في رؤوس أموال الصناديق أو الشركات وفقاً لقيمتها السوقية، وبما لا يقل عن التقييم الذي يتم على أساس متوسّط القيمة المحددة بموجب ثلاثة تقارير مرفوعة من مقيمين ماليين معتمدين من الهيئة العامة للرقابة المالية والمصرف المركزي المصري.