عاد الحديث من جديد عن طرح الشركات الحكومية المصرية في البورصة. فقد أعلنت مؤسسة الرئاسة في بيان رسمي خلال شهر يناير/كانون الثاني الماضي عن نيتها طرح عدد من المؤسسات الاقتصادية. أحدث البيان ردّ فعل غاضب، وصدم القطاعات التي راهنت على أن الحكم الجديد يتناقض مع السياسات الاقتصادية لعصور النهب والفساد، ما أسقط فرضية أن السلطة تؤمن بالتنمية المستقلة وأنها ضد مختلف أشكال التبعية الاقتصادية والسياسية، وبالتالي لن تلجأ للقروض، ولن تستمر في طريق التحرير الاقتصادي.
من هنا، أصدر عدد من النخب السياسية بياناً يرفض النهج الاقتصادي الذي يعود لتطبيق السياسات الاقتصادية الفاسدة التي حاولت الثورة إيقافها.
ما أدى إلى خفوت نبرة الحكومة في هذا الشأن، وإغلاق الملف بشكل مؤقت، ليعود وينفتح مرة أخرى بالتزامن مع عودة وزارة قطاع الأعمال التي كانت مهمتها إدارة الشركات الحكومية، وأسهمت في بيع أكثر من 300 شركة خلال عقدين، كان من ضمنها مؤسسات اقتصادية ضخمة تجمع عمالة ماهرة وتمدّ السوق بالسلع وتوفر الخدمات وتحقق الأرباح.
خلال الفترة المقبلة تنوي المجموعة الاقتصادية في حكومة شريف إسماعيل تنفيذ عمليات خصخصة بشكل مموّه، من طريق "طرح الشركات في البورصة" وإدارة أصول الدولة غير المستغلة، ويتّصل خيار السير في هذا الطريق المعتم برغبة السلطة في تقليص الإنفاق الموجه للشركات.
تقدم الحكومة عدداً من التبريرات في هذا السياق، لتحلل جريمة الاعتداء على المال العام، وتخريب وإهدار القطاعات الصناعية والخدمية، منها أن طرح الشركات للتداول سيخلصها من إرث الفساد المتراكم على مدار سنوات مضت، وسيحقّق دخول مستثمرين جدد المزيد من الشفافية والنزاهة في إدارة الشركات، ما سينعكس، بالتالي، تحسناً في الإنتاج وتحديداً للخسائر المحققة.
اقــرأ أيضاً
وهذا التبرير ساقط في أرضه، إذ لم يمنع أحد السلطة من محاسبة الذين يديرون تلك الشركات، وهم بالمناسبة ركن أصيل في الحكم والإدارة وشركاء في السلطة، وأغلبهم تربّوا في مؤسساتها. وخير دليل على كذب هذا التبرير ما نراه من عقوبات ومجالس تأديبية بحق من احتجوا على فساد إدارة تلك الشركات من العمال وبعض القيادات المهنية الوسيطة. أمّا فرضية أن الشركات المطروحة للتداول خاسرة فغير مقنعة بتاتاً، إذ ليس هناك مستثمر يقوم بشراء أو الاكتتاب في منشأة لا تدر عليه ربحاً، بالإضافة إلى أن الكثير من المؤسسات المرشحة للتداول بالبورصة تحقق أرباحاً مرتفعة أصلاً، ومنها مصارف كبرى وشركات بترول وأخرى للإنشاءات والتعمير.
ويسوّق راسمو السياسات الحكومية لقرار طرح الشركات بالبورصة أو بيعها عبر القول إنها تسعى لإشراك الجمهور في نمو هذه الشركات وامتلاك أسهم فيها وهو مبرر غير حقيقي. فالذين سيمتلكونها أو سيشاركون في ملكيتها يعتبرون من المستثمرين الكبار.
واقع الحال إن تحسين الأداء وتطوير الشركات ومعالجة أسباب الخسائر التي تتكبدها بعضها، أمر هام وملح، لكنه ليس مبرّراً لبيعها
والتخلص منها أو وصفها بأنها عبء اقتصادي على الدولة، تستنزف مواردها المالية وتضغط على الموازنة. وبالنتيجة فإن أي توجه وطني لا بد أن ينطلق من كون هذه الشركات والمؤسسات الاقتصادية قادرة على أن تسهم في حل أزمة الاقتصاد، فمن خلالها وإذا تغيرت طريقة إدارتها وحورب الفاسدون فيها، ستستوعب العمالة وتقلص البطالة وتحد من الخلل في الميزان التجاري عبر تقليص الاستيراد والاعتماد على منتجاتها.
كذلك، بمقدور الدولة توفير سيولة مالية من أرباح هذه الشركات تعفيها عن الاقتراض والتسول، بل وتساهم في بناء قطاعات اقتصادية جديدة بعيداً عن خطاب الشكوى ومطالبة الشعب بألا يأكل وألا يشرب وألا ينام.
ذاك أن الحكومة تعلن أن لديها عجزا في التمويل لتسكت الأصوات المطالبة بتشغيل المصانع المتوقفة أو دعم المتعثر منها وتطوير الشركات القائمة، ما يطرح علامات استفهام عديدة عن مآل القروض والمنح والمساعدات، ولماذا لم توجّه إلى دعم الشركات والقطاعات الإنتاجية.
حقيقة الأمر أن هناك أطرافاً عديدة تستفيد من هذا التوجه الذي يهمل القطاعات الإنتاجية بل يصفيها ويفككها، فبناء دولة منتجة ليس ضمن أولويات السلطة حتى الآن كونها تكتفي بمشاريع الطرق والنقل والمقاولات.
بالإضافة إلى كل ما سبق، تشير تجربة مصر مع الخصخصة إلى أنها ليست حلاً لأزمة الاقتصاد ولأزمة عجز السيولة المالية، فهي لم تسهم مرّة في سد عجز الموازنة، حيث يتم تبديد عوائد بيع الشركات دون الاستفادة منها كما حدث طوال العقدين الماضيين، لتعود أزمة التمويل والموازنة للتفاقم مرة أخرى، وليبقى خيار الاستدانة والمنح طريقاً لهزيمة الإرادة والاستقلال الوطنيين، بعدما تصبح القروض بشروطها المجحفة أداة إنهاك للشعب وللأجيال المقبلة المضطرة لتحمل أعباء السياسات الخاطئة للأجيال التي سبقتها.
(باحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية)
خلال الفترة المقبلة تنوي المجموعة الاقتصادية في حكومة شريف إسماعيل تنفيذ عمليات خصخصة بشكل مموّه، من طريق "طرح الشركات في البورصة" وإدارة أصول الدولة غير المستغلة، ويتّصل خيار السير في هذا الطريق المعتم برغبة السلطة في تقليص الإنفاق الموجه للشركات.
تقدم الحكومة عدداً من التبريرات في هذا السياق، لتحلل جريمة الاعتداء على المال العام، وتخريب وإهدار القطاعات الصناعية والخدمية، منها أن طرح الشركات للتداول سيخلصها من إرث الفساد المتراكم على مدار سنوات مضت، وسيحقّق دخول مستثمرين جدد المزيد من الشفافية والنزاهة في إدارة الشركات، ما سينعكس، بالتالي، تحسناً في الإنتاج وتحديداً للخسائر المحققة.
ويسوّق راسمو السياسات الحكومية لقرار طرح الشركات بالبورصة أو بيعها عبر القول إنها تسعى لإشراك الجمهور في نمو هذه الشركات وامتلاك أسهم فيها وهو مبرر غير حقيقي. فالذين سيمتلكونها أو سيشاركون في ملكيتها يعتبرون من المستثمرين الكبار.
واقع الحال إن تحسين الأداء وتطوير الشركات ومعالجة أسباب الخسائر التي تتكبدها بعضها، أمر هام وملح، لكنه ليس مبرّراً لبيعها
كذلك، بمقدور الدولة توفير سيولة مالية من أرباح هذه الشركات تعفيها عن الاقتراض والتسول، بل وتساهم في بناء قطاعات اقتصادية جديدة بعيداً عن خطاب الشكوى ومطالبة الشعب بألا يأكل وألا يشرب وألا ينام.
ذاك أن الحكومة تعلن أن لديها عجزا في التمويل لتسكت الأصوات المطالبة بتشغيل المصانع المتوقفة أو دعم المتعثر منها وتطوير الشركات القائمة، ما يطرح علامات استفهام عديدة عن مآل القروض والمنح والمساعدات، ولماذا لم توجّه إلى دعم الشركات والقطاعات الإنتاجية.
حقيقة الأمر أن هناك أطرافاً عديدة تستفيد من هذا التوجه الذي يهمل القطاعات الإنتاجية بل يصفيها ويفككها، فبناء دولة منتجة ليس ضمن أولويات السلطة حتى الآن كونها تكتفي بمشاريع الطرق والنقل والمقاولات.
بالإضافة إلى كل ما سبق، تشير تجربة مصر مع الخصخصة إلى أنها ليست حلاً لأزمة الاقتصاد ولأزمة عجز السيولة المالية، فهي لم تسهم مرّة في سد عجز الموازنة، حيث يتم تبديد عوائد بيع الشركات دون الاستفادة منها كما حدث طوال العقدين الماضيين، لتعود أزمة التمويل والموازنة للتفاقم مرة أخرى، وليبقى خيار الاستدانة والمنح طريقاً لهزيمة الإرادة والاستقلال الوطنيين، بعدما تصبح القروض بشروطها المجحفة أداة إنهاك للشعب وللأجيال المقبلة المضطرة لتحمل أعباء السياسات الخاطئة للأجيال التي سبقتها.
(باحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية)