مع تصاعد التوتر بين بعض العشائر العربية و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، شرقي الفرات، في الشرق السوري، لا سيما إثر وقوع العديد من عمليات الاغتيال التي طاولت بعض زعماء تلك العشائر، وأبرزها اغتيال أحد زعماء عشيرة العكيدات، مطشر الهفل، مطلع أغسطس/آب الحالي، سعى النظام السوري إلى استغلال هذه التطورات لمصلحته، محاولاً تفعيل شعار "المقاومة الشعبية" ضد الوجود الأميركي في المنطقة، والذي كان تحدث عنه رئيس النظام بشار الأسد في وقت سابق. وحمّل النظام "قسد" المدعومة من الأميركيين، مسؤولية الاغتيالات، وهو ما نفته المليشيات الكردية، مُلقية بدورها بالتهمة على النظام، وعلى تنظيم "داعش".
ومن الممكن القول إن المواجهة الأخيرة، التي حصلت بين عناصر على حاجزٍ تابع للنظام في ريف مدينة القامشلي، وبين دوريةٍ أميركية، والتي أسفرت عن مقتل جندي واحد على الأقل من قوات النظام، وإصابة آخرين، تصبّ في هذا السياق. وفيما نفت قوات التحالف الدولي ما ذكره النظام حول استهداف مروحيات أميركية للحاجز، أقرّت بأنها أطلقت النار على عناصر الحاجز بعد تعرضها للنار من نقطة قربه، قبل أن تصل دورية روسية من مطار القامشلي العسكري إلى المكان وتساهم في فضّ الاشتباك، والسماح للدورية الأميركية بمواصلة طريقها.
وهذه ليست الحادثة الأولى من نوعها بين الطرفين، إذ شهدت مناطق ريف الحسكة خلال الأسابيع الماضية عدداً من حوادث الاحتكاك والتوترات بين قوات النظام وقوات التحالف الدولي، فضلاً عن احتكاكات بين الدوريات الروسية والأميركية في المنطقة. وفي 13 يوليو/تموز الماضي، هدّد ضابط من قوات النظام دورية أميركية بإحراقها في حال عاودت المرور قرب الحاجز العسكري الذي يشرف عليه، لتمهل بعد ذلك الوحدات الكردية، بالتفاهم مع القوات الروسية، قوات النظام 7 أيام، لإخلاء قرية منسف التحتاني الواقعة في ريف تل تمر، حيث وقعت الحادثة. كما منع حاجزٌ لقوات النظام في قرية تل أسود، شمال شرقي الحسكة، مرور دورية أميركية مطلع الشهر الماضي، فيما تعرضت الدوريات الأميركية في حوادث متكررة، للرشق بالحجارة وتمّ اعتراضها في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
شهدت مناطق ريف الحسكة، خلال الأسابيع الماضية، عدداً من حوادث الاحتكاك والتوترات بين قوات النظام وقوات التحالف الدولي
وفي إطار استثماره هذه الحوادث، شجّع النظام بعض أهالي محافظة الحسكة على تنظيم وقفتين احتجاجيتين أمام القصر العدلي في مدينة الحسكة، وأمام المركز الثقافي في القامشلي، أول من أمس الثلاثاء، استنكاراً لـ"العدوان الأميركي" على حاجز قواته في ريف مدينة القامشلي. وبحسب وكالة "سانا" للأنباء التابعة للنظام، فإن المشاركين في الوقفتين "ندّدوا بالعدوان الأميركي، ودعوا إلى مقاومة الاحتلال الأميركي والالتفاف حول الجيش، وتفعيل دور المقاومة الشعبية، لطرد المحتل الذي ينتهك السيادة السورية ويسرق الثروات". كما يحاول النظام استمالة العشائر العربية شرقي الفرات، مستغلاً حالة الاحتقان الشعبي ضد "قسد" وممارساتها بحق الأهالي، مثل عمليات الاعتقال العشوائية وسوق الشبان للتجنيد في صفوفها، واستئثارها بالثروات النفطية وبالقيادة في مناطق ذات أغلبية عربية، مستقوية بالدعم الأميركي.
وفي هذا الإطار، رفضت عشيرة البكارة طلباً أميركياً بتسليم الأسلحة التي صادرتها، السبت الماضي، بعد وقوع مواجهاتٍ بين أبناء العشيرة وعناصر من "قسد" في قرية جديد بكارة بريف دير الزور شرقي سورية، وذلك بعدما التقى وفد من أبناء العشيرة بممثلين عن الجيش الأميركي في قاعدة حقل العمر النفطية. وطالب الوفد بطرد عناصر "قسد" من المنطقة، وإطلاق سراح المعتقلين، وعدم التدخّل في شؤون القبائل العربية، وحثّ على ضرورة الكشف عن هوية مرتكبي عمليات الاغتيال التي استهدفت وجهاء وشيوخ العشائر في المنطقة، وتسليم أمور المنطقة لمجلس عشائري محلي. وكانت قوة تابعة لـ"قسد"، حاولت يوم السبت الماضي، اقتحام قرية جديد بكارة بهدف اعتقال القيادي في "مجلس دير الزور العسكري"، خليل الوحش، لكن الأهالي تصدوا لها، بحسب موقع "الخابور" المحلي.
كما أعلنت عشيرة البوعاصي في محافظة الحسكة، استعدادها للانضمام إلى انتفاضة عشيرتي العكيدات والبكارة في القرى الشرقية في ريف دير الزور، ضد القوات الأميركية و"قسد". ووفق "سانا"، فإن شيخ عشيرة البوعاصي أنذر أبناء العشائر العربية المنتسبين إلى "قسد" في المنطقة بتركها، و"العودة إلى أبناء جلدتهم وإلا ستهدر دماؤهم رخيصةً"، مؤكداً وقوفهم خلف "قيادة الرئيس بشار الأسد حتى النصر وتحرير الأراضي من أشكال الاحتلال كافةً".
وكانت قبيلة العكيدات قد أعلنت في 9 أغسطس الحالي، تشكيل جناح عسكري لها بالتنسيق مع قوات النظام، وذلك بعد اغتيال أحد أبرز شيوخها، مطشر الهفل، مطلع الشهر. وسعى النظام لجعل هذه الحادثة محطّة تأسيسية لاستمالة العشائر إلى صفّه ضد "قسد" والأميركيين، وهو ما برز في التضامن العشائري اللافت مع عشيرة العكيدات بوجه الأميركيين، الذين حمّلهم قسم من عشيرة العكيدات مسؤولية عمليات الاغتيال الأخيرة، خلال اجتماع عقده الأسبوع الماضي، لترد عليه "قسد" بتنظيم اجتماع للقسم الآخر من العشيرة، والذي حمّل النظام السوري مسؤولية الاغتيالات.
سعى النظام لجعل اغتيال أحد أبرز شيوخ قبيلة العكيدات محطّة تأسيسية لاستمالة العشائر إلى صفّه ضد "قسد" والأميركيين
ويظهر من البيان الذي صدر بتشكيل جناح عسكري لـ"العكيدات"، أن من بين الأمور التي فجّرت المشهد هناك، تعاقد "الإدارة الذاتية" الكرديّة مع شركة "ديلتا كريسنت إنيرجي" الأميركية، لإصلاح آبار النفط الواقعة في مناطق وجود القبائل العربية، وإخراج نفطها وتصديره إلى الخارج، على أن تعود عوائده المالية إلى "الإدارة الذاتية"، من دون أن يستفيد منه أبناء المنطقة العرب.
وكان رئيس النظام بشار الأسد، قد لفت في إحدى مقابلاته الصحافية قبل نحو ثلاثة أشهر، إلى أن مواجهة القوات الأميركية المحتلة لآبار النفط، ليست من أولويات قواته في هذه المرحلة، لكنه لم يستبعد قيام "مقاومة شعبية" من أبناء المنطقة لهذا الهدف، وهو ما تجلى في تصاعد الاستهدافات لمليشيات "قسد" في المنطقة، وهي هجمات عادة ما تنسب لـ"داعش"، فضلاً عن تصاعد الاحتجاجات "الشعبية" والاعتراضات من جانب قوات النظام للدوريات الأميركية في المنطقة.
هذه الجهود من جانب النظام، تتم بالتنسيق مع الطرف الروسي، الذي بدأ يتغلغل في شرق الفرات مع بدء العملية العسكرية التركية الأخيرة هناك العام الماضي، بالتزامن مع تحرك روسي للسيطرة على مطار القامشلي والمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام وإدخال مساعدات إلى المنطقة. ويأتي التمدد الروسي شرقي الفرات إثر تراجع الدور الإيراني في المنطقة، بعد مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، ما أفسح المجال أمام الروس لاستمالة بعض شيوخ العشائر، بدخول مناطق طي وحرب وعشائر بني سبعة والبوعاصي والبو راشد والغنامة. وطرح الروس خططاً لتجنيد أبناء العشائر في كتائب عسكرية غير نظامية، بهدف سحب البساط الشعبي والعشائري من تحت أقدام الأميركيين في تلك المنطقة.
ورأى المحلل السياسي شادي عبد الله، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن النظام السوري يحاول الاستفادة من هذه التطورات في شرق الفرات، ومن فترة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، لزيادة الضغط على الوجود الأميركي في المنطقة. وأكد عبد الله أن عين النظام "هي على الثروات النفطية شرقي الفرات، والتي يدرك أنه لن يستطيع الوصول إليها طالما بقيت القوات الأميركية في سورية".
واعتبر عبد الله أن الفترة المقبلة قد تكون حسّاسة للإدارة الأميركية بوصفها فترة انتخابات، وأي استهداف مباشر للجنود الأميركيين في الخارج، قد ينتج عنه قرار أميركي بسحبهم، حيث التركيز الأساسي للرئيس دونالد ترامب هو على الفوز بولاية ثانية، وهو أصلاً غير متحمس لبقاء تلك القوات في سورية، وسعى أكثر من مرة لسحبها، لولا تدخلات بعض أركان الإدارة والكونغرس، وبعض الحلفاء الإقليميين.
وبحسب المحلل السياسي، فإن "النظام ربما يحاول خلال الفترة المقبلة زيادة الضغط على الأميركيين بالتنسيق مع روسيا، وبالتالي من غير المستبعد أن نشهد عمليات تفجير في مواقع أو دوريات أميركية تُنسب إلى مجهولين أو إلى تنظيم داعش، وتتسبب في مقتل جنود أميركيين، بهدف دفع واشنطن للتفكير مجدداً بالانسحاب من سورية، أو على الأقل من آبار النفط التي تشتد حاجة النظام إليها الآن، في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها". ولفت عبد الله إلى أن "هذا الانسحاب، إن حصل، ولو بشكلٍ جزئي، فسوف يمهد الطريق أمام النظام لتوسيع نطاق سيطرته الجغرافية في شرق الفرات، وهي محاولات له باءت بالفشل حتى الآن، بسبب منع الأميركيين له من العبور إلى المنطقة".