01 نوفمبر 2024
النخب التونسية والحركة الانقلابية التركية
شرخ جديد طرأ على النخب الفكرية والسياسية التونسية، مأتاه، هذه المرّة، الحركة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا يوم 15 يوليو/ تموز الجاري. سرعان ما تحول الشرخ الذي انطلق في شكل حواراتٍ واختلافاتٍ في الرأي والموقف إلى حالةٍ انقساميةٍ سياسيةٍ حادّة، لم تعرفها تونس، إلا مع مناقشة قضايا ذات صبغةٍ وطنية محضة، على غرار النتائج الانتخابية في سنتي 2011 و2014، وما صاحبها من تشكيل حكوماتٍ، وسقوط أخرى، وما ارتبط بها من اغتيالات لرموز سياسيين، من أمثال الشهيدين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ومن أحداث إرهابية وازنة، مثل وقائع متحف باردو ومدينة سوسة التي كان ضحاياها عشرات السياح الأجانب، وضاحية محمد الخامس التي استهدف فيها الحرس الرئاسي التونسي.
أعطى الحجم الكثيف لتلك النقاشات والسجالات التي أثثت المجالس السياسية والمنابر الفكرية والصفحات الافتراضية والوسائل الإعلامية والمراكز الاتصالية والمنتديات الشعبية الذي كان ينفلت منها بعض العنف الرمزي واللفظي والعدوانية والبغضاء، أعطى انطباعاً بأن المحاولة الانقلابية مسرحها تونس، وليس تركيا التي تبعد عشرات آلاف الأميال، حتى خُيّل لبعضهم أن الدبابات كانت منتصبةً أمام مجلس نواب الشعب التونسي، وليس أمام البرلمان التركي، وأن بيان الانقلابيين الأول تبثه التلفزة الوطنية التونسية، وليس القناة التركية، على ما في الصورة المتخيّلة من صبغةٍ كاريكاتوريةٍ تعكس قلقاً شديداً من المشهد التركي وتداعياته على تونس.
ولعلّ ذلك الاهتمام المبالغ فيه بالشأن التركي، من النخب التونسية، لا سيما الوسطى منها، يستبطن الإرث العثماني الثقيل في تونس الذي امتدّ قروناً، وخصوصاً مواطن العتمة والبقاع السوداء المظلمة فيه، مثل صيحة الاستغاثة التي بقيت عالقةً في النصوص التاريخية، من دون إجابة أو تفسير لتنازل الباب العالي عن إحدى ولاياته بدون أدنى مقاومة، وأطلق تلك الصيحة باي تونس محمد الصادق، سليل الأسرة الحسينية الراجع حكمها بالنظر إلى السلطان العثماني، عشية احتلال إيالة تونس من القوات الاستعمارية يوم 12 مايو/ أيار 1881، وإعلانها محمية فرنسية، قائلا "وضعت مصيري ومصير الولاية بأيدي الصدر الأعظم والسلطان. إننا نسترحم باسم الإنسانية المساعدة من جلالتكم"، حسب ما ورد في أطروحة عبد الرحمن تشايجي، حول المسألة التونسية في السياسة العثمانية في ترجمتها العربية المنشورة سنة 1973.
وقد بلغ صدى هذه السجالات الصاخبة البرلمان التونسي، في جلسته العامة يوم 19 يوليو/
تموز الجاري، وتحوّلت، في جزءٍ منها، إلى حلقةٍ نقاشيةٍ، تباينت فيها الآراء، واحتدّت فيها المواقف، موضوعها المحاولة الانقلابية التركية وأسبابها وحيثياتها والموقف من الانقلابات العسكرية، ومن السياسات الإقليمية للعثمانية الجديدة العائدة إلى الحكم في تركيا منذ عقد أو يزيد. ما دعا إحدى الكتل النيابية إلى إصدار بيانٍ باسم البرلمان التونسي، يدين فيه المحاولة الانقلابية الفاشلة، اشترطت أطراف أخرى، أن يكون ذلك مقروناً بإدانة التدخل التركي في كل من سورية والعراق وحتى في ليبيا، لتسقط فكرة البيان برمتّها، من دون أن يُخطّ منه حرف واحد.
انقلبت الأدوار في موقف النخب التونسية من العملية الانقلابية التركية، في مفارقةٍ لافتةٍ للنظر، ففي حين انبرى الإسلاميون وحواشيهم السياسية والعقائدية القادمون من الزمن السلطاني، ومن فكرة الخلافة، يدافعون بكل ما أوتوا من قوةٍ سياسيةٍ وإعلامية، ومن تأثير في الرأي العام، على حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وشرعية نظامه، مدينين الانقلابيين، بعد وصمهم بأبشع النعوت، ومعلنين التعبئة العامة في صفوف أنصارهم إلى درجة الخروج في مظاهراتٍ مؤيدةٍ أمام السفارة التركية في تونس، فإن التيارات القومية العربية واليسارية لم تخفِ تعاطفاً مع الحركة الانقلابية، على الرغم من إعلان الإدانة الذي صدّره بعضها في بياناته، مبعثه الدور التركي في سورية الذي ساعد على تفكيك الدولة السورية وتدمير كثير من مدنها وتحويل جزءٍ من شعبها إلى لاجئين في تركيا، وفي دول أخرى، والاستيلاء على ثروات السوريين ومصانعهم، وتحويلها إلى الداخل التركي.
وبقطع النظر عن مدى متانة (وقوة) حجة كل طرف أو حزب أو تيار فكري أو سياسي، فإن الإسلاميين عملوا على إظهار أنفسهم سنداً للديمقراطية وحافظاً لشرعية صندوقها الانتخابي الذي جاء بحزب العدالة والتنمية التركي إلى سدّة الحكم، من دون أن يهملوا التقليل من أهمية خصومهم القوميين واليساريين، وحتى الليبراليين، وتقزيمهم ووصفهم بأعداء الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد والانقلابية في مجتمع ديمقراطيٍّ ناشئ. وقد قوبل هذا الموقف بإبراز النزعة السلطوية والتسلّطية لدى أردوغان، ما جعله يفصّل القوانين السياسية للدولة التركية على مقاسه، ما مكّنه من استنفاد كل الحقب التي منحها له الدستور التركي، في تولي رئاسة الحكومة في نظام برلماني، ثم يحوّر الدستور على مقاسه، مرّة أخرى، ليحصل على صلاحيات رئيس في نظام رئاسي ينحو نحو الديكتاتورية. وبذلك يكون هو نفسه من أحدث الظروف الملائمة للانقلاب عليه. هذا من دون تفصيل القول، في إحدى وجهات النظر التي تتسم بالغلو، وتعتبر أن ما حدث في تركيا هو مجرّد مسرحية من الرئيس التركي لتصفية خصومه ومعارضيه. ويعتبر أصحاب هذا الرأي أيضاً أن القضية الوطنية العربية، ومنها الدفاع عن سورية، تحتل المرتبة الأولى في سلّم اختياراتهم، ثم تليها القضية الديمقراطية، لتكمّلها بدلاً من أن تكون على حسابها.
ولم يغب عن هذه المعركة الحامية الوطيس، الاستثمار في التراث السياسي العربي المعاصر،
وتوظيف ما شهده من انقلاباتٍ عسكريةٍ في صراعات النخب التونسية، فحضر إرث القوميين واليساريين، من الانقلابات العسكرية في مصر وليبيا والعراق وسورية واليمن، كمحل إدانة من الإسلاميين، وحضر كذلك إرث "الإخوان الإسلاميين" الانقلابي في السودان من الفريق عمر البشير، وبقيادة المرحوم حسن الترابي، قبل أن يتحول الرجلان إلى خصمين، لم تبتعد رائحة الدم والسجون والتصفيات عن صراعهما.
تنقسم النخب الفكرية والسياسية التونسية، إلى فسطاطين، أحدهما مؤيد لنظام أردوغان، ومدافع عن شرعيته، ورافض رفضاً مطلقاً إطاحته، من خارج صناديق الاقتراع، وثانيهما يعلن رفضه الرئيس التركي، وسياساته في المنطقة، على الرغم من عدم تأييد الانقلاب العسكري الذي استهدف نظامه، محرّكه الأساسي رؤيةٌ أيديولوجية، تمثل قاعدة رئيسية، في قواعد العمل السياسي الديمقراطي الغض والطري، في تونس. ذلك أن الفريق الأول ينظر إلى ما حدث في تركيا على أنه استهداف لتجربة إسلاميين بصورةٍ أساسية، وأن تركيا قاعدة متقدمة للحركة الاسلامية العالمية التي تمكّنت بفضل الأتراك، أن تؤمّن لنفسها مركز انطلاقٍ آمنٍ في اتجاه كل الدول التي تعمل فيها الحركة الإسلامية، من أجل الوصول إلى السلطة، وتأمين شيء من الاستقرار فيها، ومنها تونس، هذا علاوة على أن للإسلاميين دولة كبرى هي تركيا، تحميهم وتفاوض باسمهم في مراكز القرار الدولي، ولدى لوبيات السياسة في تلك المراكز، وذلك بعد خسارتهم مصر التي حلُم الإسلاميون بحكمها منذ تسعين سنة، إلا أن حلمهم سرعان ما تحول إلى كابوسٍ بعد تجربة قصيرة دامية. أما الفريق الثاني فينطلق من أن تحول تركيا إلى مركزٍ إقليمي في المنطقة، يتمتع بموالاة الحركات الإسلامية، وخصوصاً العربية منها التي تصل إلى السلطة، هو نوع من التبعية والهيمنة للأتراك الذين كان لهم دور ثانوي في المنطقة، عندما كان مركز القرار في يد القوميين العرب، في أزمنة جمال عبد الناصر وصدام حسين ومعمر القذافي، الذين كانت لهم سياسات إقليمية ومراكز نفوذ جيو-ساسية في إفريقيا وآسيا، ربما كانت تركيا جزءا منها.
وستبقى هذه السجالات النخبوية قائمةً حول القضية التركية، وغيرها من القضايا المتفجّرة المسرعة والمتواترة التي تعيشها النخب التونسية، على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية والسياسية، وهي سجالاتٌ واختلافاتٌ، وحتى صراعات محمودة ومعقولة، ما دامت طبيعتها سلمية، محكومة بالنصوص الكبرى للدولة، وتدور في مؤسساتها، وتحدث ديناميكية في المجتمع، من دون أن تصل إلى الاحتراب الداخلي والعنف المادي الذي دمّر شعوباً ودولاً مجاورة.
أعطى الحجم الكثيف لتلك النقاشات والسجالات التي أثثت المجالس السياسية والمنابر الفكرية والصفحات الافتراضية والوسائل الإعلامية والمراكز الاتصالية والمنتديات الشعبية الذي كان ينفلت منها بعض العنف الرمزي واللفظي والعدوانية والبغضاء، أعطى انطباعاً بأن المحاولة الانقلابية مسرحها تونس، وليس تركيا التي تبعد عشرات آلاف الأميال، حتى خُيّل لبعضهم أن الدبابات كانت منتصبةً أمام مجلس نواب الشعب التونسي، وليس أمام البرلمان التركي، وأن بيان الانقلابيين الأول تبثه التلفزة الوطنية التونسية، وليس القناة التركية، على ما في الصورة المتخيّلة من صبغةٍ كاريكاتوريةٍ تعكس قلقاً شديداً من المشهد التركي وتداعياته على تونس.
ولعلّ ذلك الاهتمام المبالغ فيه بالشأن التركي، من النخب التونسية، لا سيما الوسطى منها، يستبطن الإرث العثماني الثقيل في تونس الذي امتدّ قروناً، وخصوصاً مواطن العتمة والبقاع السوداء المظلمة فيه، مثل صيحة الاستغاثة التي بقيت عالقةً في النصوص التاريخية، من دون إجابة أو تفسير لتنازل الباب العالي عن إحدى ولاياته بدون أدنى مقاومة، وأطلق تلك الصيحة باي تونس محمد الصادق، سليل الأسرة الحسينية الراجع حكمها بالنظر إلى السلطان العثماني، عشية احتلال إيالة تونس من القوات الاستعمارية يوم 12 مايو/ أيار 1881، وإعلانها محمية فرنسية، قائلا "وضعت مصيري ومصير الولاية بأيدي الصدر الأعظم والسلطان. إننا نسترحم باسم الإنسانية المساعدة من جلالتكم"، حسب ما ورد في أطروحة عبد الرحمن تشايجي، حول المسألة التونسية في السياسة العثمانية في ترجمتها العربية المنشورة سنة 1973.
وقد بلغ صدى هذه السجالات الصاخبة البرلمان التونسي، في جلسته العامة يوم 19 يوليو/
انقلبت الأدوار في موقف النخب التونسية من العملية الانقلابية التركية، في مفارقةٍ لافتةٍ للنظر، ففي حين انبرى الإسلاميون وحواشيهم السياسية والعقائدية القادمون من الزمن السلطاني، ومن فكرة الخلافة، يدافعون بكل ما أوتوا من قوةٍ سياسيةٍ وإعلامية، ومن تأثير في الرأي العام، على حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وشرعية نظامه، مدينين الانقلابيين، بعد وصمهم بأبشع النعوت، ومعلنين التعبئة العامة في صفوف أنصارهم إلى درجة الخروج في مظاهراتٍ مؤيدةٍ أمام السفارة التركية في تونس، فإن التيارات القومية العربية واليسارية لم تخفِ تعاطفاً مع الحركة الانقلابية، على الرغم من إعلان الإدانة الذي صدّره بعضها في بياناته، مبعثه الدور التركي في سورية الذي ساعد على تفكيك الدولة السورية وتدمير كثير من مدنها وتحويل جزءٍ من شعبها إلى لاجئين في تركيا، وفي دول أخرى، والاستيلاء على ثروات السوريين ومصانعهم، وتحويلها إلى الداخل التركي.
وبقطع النظر عن مدى متانة (وقوة) حجة كل طرف أو حزب أو تيار فكري أو سياسي، فإن الإسلاميين عملوا على إظهار أنفسهم سنداً للديمقراطية وحافظاً لشرعية صندوقها الانتخابي الذي جاء بحزب العدالة والتنمية التركي إلى سدّة الحكم، من دون أن يهملوا التقليل من أهمية خصومهم القوميين واليساريين، وحتى الليبراليين، وتقزيمهم ووصفهم بأعداء الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد والانقلابية في مجتمع ديمقراطيٍّ ناشئ. وقد قوبل هذا الموقف بإبراز النزعة السلطوية والتسلّطية لدى أردوغان، ما جعله يفصّل القوانين السياسية للدولة التركية على مقاسه، ما مكّنه من استنفاد كل الحقب التي منحها له الدستور التركي، في تولي رئاسة الحكومة في نظام برلماني، ثم يحوّر الدستور على مقاسه، مرّة أخرى، ليحصل على صلاحيات رئيس في نظام رئاسي ينحو نحو الديكتاتورية. وبذلك يكون هو نفسه من أحدث الظروف الملائمة للانقلاب عليه. هذا من دون تفصيل القول، في إحدى وجهات النظر التي تتسم بالغلو، وتعتبر أن ما حدث في تركيا هو مجرّد مسرحية من الرئيس التركي لتصفية خصومه ومعارضيه. ويعتبر أصحاب هذا الرأي أيضاً أن القضية الوطنية العربية، ومنها الدفاع عن سورية، تحتل المرتبة الأولى في سلّم اختياراتهم، ثم تليها القضية الديمقراطية، لتكمّلها بدلاً من أن تكون على حسابها.
ولم يغب عن هذه المعركة الحامية الوطيس، الاستثمار في التراث السياسي العربي المعاصر،
تنقسم النخب الفكرية والسياسية التونسية، إلى فسطاطين، أحدهما مؤيد لنظام أردوغان، ومدافع عن شرعيته، ورافض رفضاً مطلقاً إطاحته، من خارج صناديق الاقتراع، وثانيهما يعلن رفضه الرئيس التركي، وسياساته في المنطقة، على الرغم من عدم تأييد الانقلاب العسكري الذي استهدف نظامه، محرّكه الأساسي رؤيةٌ أيديولوجية، تمثل قاعدة رئيسية، في قواعد العمل السياسي الديمقراطي الغض والطري، في تونس. ذلك أن الفريق الأول ينظر إلى ما حدث في تركيا على أنه استهداف لتجربة إسلاميين بصورةٍ أساسية، وأن تركيا قاعدة متقدمة للحركة الاسلامية العالمية التي تمكّنت بفضل الأتراك، أن تؤمّن لنفسها مركز انطلاقٍ آمنٍ في اتجاه كل الدول التي تعمل فيها الحركة الإسلامية، من أجل الوصول إلى السلطة، وتأمين شيء من الاستقرار فيها، ومنها تونس، هذا علاوة على أن للإسلاميين دولة كبرى هي تركيا، تحميهم وتفاوض باسمهم في مراكز القرار الدولي، ولدى لوبيات السياسة في تلك المراكز، وذلك بعد خسارتهم مصر التي حلُم الإسلاميون بحكمها منذ تسعين سنة، إلا أن حلمهم سرعان ما تحول إلى كابوسٍ بعد تجربة قصيرة دامية. أما الفريق الثاني فينطلق من أن تحول تركيا إلى مركزٍ إقليمي في المنطقة، يتمتع بموالاة الحركات الإسلامية، وخصوصاً العربية منها التي تصل إلى السلطة، هو نوع من التبعية والهيمنة للأتراك الذين كان لهم دور ثانوي في المنطقة، عندما كان مركز القرار في يد القوميين العرب، في أزمنة جمال عبد الناصر وصدام حسين ومعمر القذافي، الذين كانت لهم سياسات إقليمية ومراكز نفوذ جيو-ساسية في إفريقيا وآسيا، ربما كانت تركيا جزءا منها.
وستبقى هذه السجالات النخبوية قائمةً حول القضية التركية، وغيرها من القضايا المتفجّرة المسرعة والمتواترة التي تعيشها النخب التونسية، على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية والسياسية، وهي سجالاتٌ واختلافاتٌ، وحتى صراعات محمودة ومعقولة، ما دامت طبيعتها سلمية، محكومة بالنصوص الكبرى للدولة، وتدور في مؤسساتها، وتحدث ديناميكية في المجتمع، من دون أن تصل إلى الاحتراب الداخلي والعنف المادي الذي دمّر شعوباً ودولاً مجاورة.