النخبة التونسية والشعب: تضارب الأولويات

21 يناير 2016
يجب التواصل والتعاون الرسمي مع أبناء الشعب (فرانس برس)
+ الخط -
لطالما كان شهر جانفي (يناير) مثيرا لنوازع الثورة والاحتجاج عند الشعب التونسي. فرغم ما يتميز به هذا الشهر من برودة الطقس إلا أنه يسجل أعلى درجات الحرارة السياسية والاجتماعية في أكثر من مناسبة نذكر منها 18 جانفي 1952 ثالث أهم المعارك ضد الاستعمار الفرنسي، و 3 جانفي 1984 ثورة الخبز ثم 14 جانفي 2011 ثورة الحرية والكرامة.


والآن، بعد مرور 5 سنوات على الثورة التونسية اختار الشباب التونسي في المناطق الداخلية المهمشة شهر جانفي لينتفض من جديد، رافعا مطالب اجتماعية مثلت وقود ملحمة إسقاط النظام النوفمبري.

رغم الإجماع على أحقية هذه المطالب إلا أنها تذيلت قائمة الأولويات لدى النخبة التونسية منذ انطلاق المسار السياسي الانتقالي بمكون إسلامي جديد.

بمجرد ظهور حركة النهضة في المشهد السياسي كطرف فاعل وصاحب حظوظ انتخابية تحول الصراع النخبوي من معركة سياسية - اجتماعية إلى معركة هووية أيديولوجية تستبدل سؤالي الحرية والعدالة الاجتماعية بسؤال أي مجتمع نريد، الذي على أساسه وقع الاصطفاف.

على غرار تهميش عديد المناطق والجهات التونسية همشت أهم أسئلة الثورة بسبب الحمولة الأيديولوجية المفرطة لدى نخبة لم تعلمها دروس الاستبداد أدب التعايش وفن إدارة الاختلاف.

بصعود حركة النهضة للحكم تعمق الخلاف بين الطبقة السياسية، ودقت بعض الأحزاب والتيارات الفكرية طبول الحرب على "الإسلام السياسي" ومن ورائه الدولة والثورة. حيث إن حقدهم الدفين على الطرف الإسلامي جعلهم يستهدفون مسار الانتقال الديمقراطي ويضعون العراقيل أمام أي نجاح يمكن أن تحققه حكومة الترويكا لفائدة الشعب، خوفا من أن ينسب النجاح للإسلاميين أو من لف لفهم.

وكما خاض الإسلام السياسي امتحان الدولة عاشت النخبة المحسوبة على الحداثة امتحان الديمقراطية والوفاء للشعب. وبقدر ما تعثرت النهضة داخل الدولة فقد فشلت تيارات "الحداثة" في أن تنسجم مع ما صدّعت به رؤوسنا من شعارات تقدمية لطالما استخدمتها ضد خصومها.

في خضم هذه المعارك الأيديولوجية الطاحنة اندثرت مطالب الثوار وانقلب دور الشباب من قادة التغيير الحقيقي إلى أدوات صراع الشرعية/ الانقلاب.

مصائب مصر عند تونس فوائد، هكذا كان تأثير الانقلاب العسكري في مصر ومشاهد الدم من الميادين على بعض الرموز السياسية في تونس، على عكس ما أراده البعض الآخر من استنساخ للتجربة المصرية. وهو ما أهّل تونس لتنال جائزة نوبل للسلام في الوقت الذي تعيش فيه باقي دول الربيع على وقع الحرب.

لقد تحققت نسب محترمة من الديمقراطية السياسية ووقع التأسيس لمبدأ التوافق كركن أساسي في البناء الديمقراطي. إلا أن قاعدة هذا التوافق هشة وأفقه محدود ما لم يكن للبعد الاجتماعي والاقتصادي الأولوية والمكانة اللازمة. مع وجوب التنبيه لما يتعرض له هذا المسار التوافقي من مكائد داخلية وخارجية بهدف النيل منه ومن مشاركة الإسلاميين في الحكم.

إن احتجاجات أهالي القصرين هذه الأيام وغيرهم من محرومي الوطن مشروعة تماما ومن واجب الدولة التعامل معها بجدية ومسؤولية. إنها صيحة فزع في وجه الحكومة ظاهرا وفي وجه كل الطبقة السياسية التي رتبت اولوياتها على غير أولويات شعبها.

لقد تأخرت الحكومة فعلا عن اتخاذ إجراءات عملية واضحة لحل الإشكاليات الاجتماعية والتنموية وآن الأوان لتفكر كل من الدولة والأحزاب والمجتمع المدني في تحويل صراعهم إلى تنافس حول البرامج لخدمة الشعب وليس حول قضايا أيديولوجية هووية حسمها الدستور وسينضجها المجتمع والعقل الجمعي الشعبي.

آن الأوان لتتجدد نخبنا وتجدد رؤاها وخياراتها، وتحمي شبابنا من الاستغلال السياسي والفقر والإرهاب.

إن انحيازنا لمطالب المفقرين والمهمشين لا يتعارض مع انحيازنا لدولة ناشئة تؤسس لديمقراطيتها في أصعب الظروف، مع التحذير من استخدام أبناء الشعب ومطالبهم وقودا لإنهاك الدولة ووسيلة للنيل من المسار الانتقالي.

يجب التواصل والتعاون الرسمي مع أبناء الشعب والبداية في تحقيق العدالة الاجتماعية بين الجهات والأفراد، حتى نتمكن من تمتين الأرضية الديمقراطية وتتحول المسألة الاجتماعية رافعة للمسار الديمقراطي وليس عقبة أمامه.

(تونس)
المساهمون