النبي صالح

25 نوفمبر 2015
النبي صالح تقاوم مستوطنة حلميش (عباس مومانس/ فرانس برس)
+ الخط -
اعتقلت السلطات الإسرائيلية خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987، والتي أُطلق عليها "انتفاضة الحجارة"، أربعة شبان من قرية "النبي صالح" الفلسطينية، كانوا يسعون وراء الرزق في أطراف مدينة الخليل، جنوبي الضفة الغربية المحتلة.

في مركز التحقيق، سأل ضابط الاحتلال الإسرائيلي الشبان عن قريتهم، موقعها الجغرافي؟ عدد سكانها؟ تطوّع أحد الشبان بإجابة تشبه تلك التي يحفظها التلاميذ لامتحان الجغرافيا: هي قرية فلسطينية تقع إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله، تحدها من الجنوب قرية دير نظام، ومن الشمال بيت ريما وكفرعين، وقرية عابود من الغرب، وأم صفا من الشرق، ويبلغ عدد سكانها أقل من عشرة آلاف نسمة.

فغر الضابط فمه، وفتح عينيه، مُعجباً بدقة الإجابة، إلا ما يتعلق بعدد السكان، فكيف لم يسمع بهذه القرية ذات العشرة آلاف نسمة، وقد سبق له الخدمة في وحدات الجيش الإسرائيلي في رام الله، تساءل الضابط. لم ينتظر شاب آخر طويلاً، واستبق حنق الضابط بالقول مع ابتسامة ساخرة: صاحبي يُبالغ، فعدد سكان قريتنا لا يتجاوز الـ500 نسمة في أوقات الذروة، ولكن صاحبي لم يكذب أيضا لأن الـ500 هي فعلاً أقل من العشرة آلاف كما قال. بهذه الطرافة والسخرية من "جبروت" الاحتلال، يواجه أهل قرية النبي صالح أشد المواقف وأصعبها.

المقام والعائلة
تسير السيارة من وسط رام الله شمالاً باتجاه قرى سُردا وأبو قش وصولاً إلى وسط بيرزيت، ثم تنحرف إلى الغرب بمحاذاة أطراف قريتي عطارة وأم صفا قبل الوصول إلى المفرق المؤدي يميناً إلى النبي صالح، ويساراً إلى مغتصبة "حلميش". على هذا المفرق، يبدأ الفرق، وتبدأ حكاية المواجهة المفتوحة بين قرية وادعة على تلة صغيرة، ومستوطنة اغتصبت صدر الأرض. قبل انتفاضة الأقصى العام 2000، كان مدخل القرية يستقبل القادمين بقوس يشبه قوس النصر تعلوه عبارة "النبي صالح ترحب بكم"، أما اليوم فقد أغلق الاحتلال مدخل القرية ببوابة حديدية وبرج إسمنتي يشبهان وجه إسرائيل البشع.

تفوق شهرة قرية النبي صالح مساحتها وعدد سكانها، في ربوعها يقع مقام "النبي صالح"، وتقول الأساطير إنه عندما خرج من أرض الحجاز مع ما بقي من قوم ثمود، توجه إلى فلسطين ومرّ بالقرية قبل أن ينتهي به المطاف في منطقة الرملة المحتلة العام 1948.

ولطالما حج إلى مقامه الناس من كل أطراف فلسطين، حتى صار "موسم النبي الصالح" السنوي كرنفالاً للتراث الشعبي الفلسطيني تتبارى فيه فرق الدبكة والزجالة. وتجاوزت سمعة القرية حدود الوطن المحتل، عندما تناقلت وكالات الصحافة العالمية صورة طفلة من أبنائها تهجم على جندي إسرائيلي لتحرير شقيقها من قبضته. وإذا ما سألت عن القرية وأهلها، يجيبك أحدهم إنها مثل كل قرى فلسطين، كانت إلى ما قبل الاحتلال تعيش بأمان وهدوء، وكل أهلها ينتمون إلى جد واحد يتحدّر من قبائل تميم، والذين سكن جزء منهم في فلسطين ويتركزون في الأساس في مدينة الخليل وبعضهم في نابلس وفي قرية النبي صالح قرب رام الله، ومنهم من يعيش في مدينة الكرك الأردنية، حيث تنسب عشيرة المجالي إلى قبائل تميم أيضاً.


الطريق إلى المواجهة
تطل ساحة القرية على تلال رام الله وجبال نابلس، وفي ليالي الصيف المُقمرة يُمكن للناظر رؤية الساحل الفلسطيني، تحيط بها حقول الزيتون وأشجار "حرش أم صفا" الباسقة، ولا يبدو شاذا في محيطها، إلى أسطح القرميد الأحمر المكدس في مغتصبة "حلميش".
ذات صباح في العام 1978، وبعد أشهر قليلة من قرار مصادرة أراضٍ من القرية، استيقظ أهالي النبي صالح على صوت الجرافات تشق صدر الأرض، وتقلع أشجار الزيتون، لتغرس في مكانها مستوطنة ووجوهاً غريبة قادمة من أقاصي روسيا وأطراف بولندا وإثيوبيا، ومنذ ذلك اليوم المشؤوم ذهب هدوء القرية وسلامها مع صرير أسنان الجرافات الموغلة في بطن الأرض بلا رحمة، وظلت "حلميش" غصة قائمة في صدور أهل القرية، تماماً كما هو الاحتلال ومستوطناته غصة في صدر كل فلسطيني.

لم يقبل أهالي "النبي صالح" بواقع الاحتلال واختاروا طريق المقاومة للخلاص منه ومن "حلميشه"، منهم من التحق بالثورة الفلسطينية وتنقل معها من الضفة الغربية إلى أغوار الأردن وجبال لبنان، ومنهم من اعتُقل وقضى في سجون الاحتلال زهرة شبابه، ومنهم من استشهد على طريق الحرية، ومنهم من لا يزال يحمل مشعل المقاومة. ضريح الشهيد القائم في وسط القرية يُخلّد أسماء الشهداء الذين قدمتهم القرية من أجل الحرية والتحرير، وعلى قلة عدد أبنائها إلا أنهم يشاركون بشكل لافت في مقاومة الاحتلال حتى وصل عدد شبان القرية المعتقلين منذ هبّة الضفة الغربية الأخيرة (انتفاضة السكاكين) وحتى مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري إلى أكثر من 22 شاباً، وهو ما عبّر عنه أحد ظرفاء القرية بالقول إن "5% من سكان القرية في المعتقل".

ثكنة عسكرية
منذ اليوم الأول لوصول المستوطن الأول، ومغتصبة "حلميش" تتدثر بالرعب وتختبئ خلف الجدران العالية الخوف وأسلاك العنصرية الشائكة. مستوطنون غرباء يخافون أبواب بيوت النبي صالح المُشرعة على الشمس، ونسائم الهواء العليل القادم من جبال الطور و"النار" والكرمل وعيبال. مع ضوء النهار يتسلّل المستوطنون المدججون بالأسلحة تحرسهم عربات الجيش المدرعة، باتجاه مدن الداخل الفلسطيني المحتل، هناك يعملون، وهناك يتعلم أولادهم، وفي "حلميش" ينامون إن استطاعوا لذلك سبيلاً، خلف جدار عال من الحقد والكراهية وأسوار من العمى والتضليل، تعبرها قسراً ضحكات أهل النبي صالح ورائحة "المعسل" المنبعث من نراجيل المُرابطين تحت "التوتة" يحمون تاريخ الأولين، وتحرس عيونهم أحلام النائمين.

ولـ"التوتة" حكاية أخرى في القرية، فهي الشاهد على فلسطينية الأرض، وأمين أسرار أهلها وذكرياتهم. ذات يوم جاء صحافي أجنبي للتعرّف على أحوال الناس في الضفة الغربية، وساقه قدره إلى قرية النبي صالح، وهناك قصد "التوتة" حيث مجلس الكبار، وسأل أحدهم من الجالسين تحت ظل شجرة التوت التي يُقدّر عمرها بمئات السنين، منذ متى أنتم هنا يا حاج؟ أجاب الحاج وقد ارتسمت على وجنتيه ابتسامة برحابة حقول الزيتون المحيطة بالساحة: هل تعرف سيدنا آدم، أبو البشر؟ سأل الحاج. نعم، أجاب الصحافي. لما نزل آدم على هذه البسيطة وجدنا نحرث هذه الأرض، واستقبلناه تحت هذه التوتة، قال الحاج، وأغمض عينيه وكأنه يستعيد تفاصيل ذلك اليوم.
دلالات
المساهمون