المُنتصر في حرب بلا غفران
ربما يكون للمصادفات دلالاتها المؤقتة فقط، فقبل 41 عاماً، تزامنت الحرب العربية الإسرائيلية "الثالثة" مع حلول اليوم العاشر من شهر رمضان لدى العرب، ويوم الغفران لدى الإسرائيليين. والآن، يتصادف اليوم نفسه مع عيد الأضحى وحلول ذكرى مرور 41 عاماً على حرب لم تنته مثل بقية الحروب التقليدية، بل استمرت مثيرة سجالات ونقاشات لدى الإسرائيليين الذين لم يقفوا عند حدود ما حصل في الحرب بـ"التقصير" أو "المحدال" الاستخباراتي الذي خلصت إليه لجنة "أغرانات" التي كلفت التحقيق في إخفاقات الحرب.
وفي هذا السياق، عاد أخيراً زاعيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" في حرب 1973، (يبلغ اليوم 86 عاماً)، ليدافع عن نفسه أمام الاتهامات التي حمّلته مسؤولية الإخفاق الاستخباري قبل الحرب، واتهم رئيسة الوزراء السابقة، غولدا مئير، ووزير الدفاع الأسبق، موشي دايان، بأنهما كانا يتحدثان هراء وترّهات. فقد قال في مقابلة، على ثلاث حلقات مع صحيفة يديعوت أحرونوت "قبل الحرب بوقت قصير، دعي جميع ضباط قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، سألتهم واحداً واحداً، هل تتوقعون نشوب حرب؟ وكلهم أعطوا الإجابة نفسها، ولم يجب أي منهم بأنه يتوقع حرباً"، وأضاف "غولدا رفضت تصديق تصريحات حكام مصر عن نيتهم تحرير القناة واختراق خط بارليف".
وكانت الرقابة العسكرية الإسرائيلية قد أفرجت بعد 40 عاماً على الحرب، عن مزيد من المحاضر والوثائق المتعلقة بحرب 1973، أشارت إلى تداعي الخطة الدفاعية الإسرائيلية (برج الحمام)، وتداعت تحصينات خط بارليف، ما دفع وزير المالية الإسرائيلي آنذاك إلى القول "لم تكن هناك سوى خطوة واحدة، ثم تنهار إسرائيل تماماً"، كما اندفع الإسرائيليون نحو البحث عن أسباب ما حدث في الحرب، فتم تشكيل "لجنة أغرانات" التي خلصت، بعد تحقيقاتٍ مطولة مع النخب العسكرية والأمنية الاستخباراتية والسياسية الإسرائيلية، إلى أن ثمة تقصيراً "محدال" كبيراً أفضى إلى حدوث ما حدث في الأيام الأربعة الأولى من حرب 1973 من اختراق الجيش السوري ما يعرف بـ"الخط الأرجواني"، أي خط وقف إطلاق النار في عدوان 1967، والاستيلاء على مرصد جبل الشيخ، وعبور الجيش المصري قناة السويس نحو الضفة الشرقية للقناة وتدمير خط بارليف. وكشف كتاب إسرائيلي بعنوان "حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية"، لمؤلفيه رونين برغمان وجيل مالتسر، عن وثائق سرية من بروتوكولات هيئة الأركان العامة والحكومة الإسرائيلية، اتضح فيها الاستهتار الإسرائيلي بالقوة العربية.
وتتضمن الوثائق الإسرائيلية اعترافات كثيرة وشهادات، ففي كتابٍ أصدره عشية الذكرى الـ 36 للحرب، كشف قائد اللواء الشمالي السابق في الجيش الإسرائيلي، الجنرال إسحق حوفي، عن توصل وزير الحرب وقتها، موشيه دايان، تحت ضغط مفاجأة الضربة العربية إلى خيار الهرب والفرار من هضبة الجولان السورية في ثاني أيام الحرب، قبل أن يستعيد الزمام، ويأمر بضرب دمشق. وجاء في الكتاب أن دايان أصدر بالفعل أمراً في 7 أكتوبر/تشرين أول بالانسحاب من الجولان وبإقامة خطوط دفاعية على الخطوط القديمة (خط الهدنة) عند مجرى نهر الأردن، والاستعداد لتدمير الجسور، حتى لا يجتازها الجيش السوري نحو إسرائيل، وفي الوقت نفسه أمر بإعداد خطة هجوم مضاد". وعندما مرت ثلاث إلى أربع ساعات على هذا الموقف، شعر دايان بأن وضع قواته بدأ يتحسن، فأحدث انعطافاً حاداً في موقفه، وأمر عندها بقصف دمشق.
ونشر أرشيف وزارة الدفاع الإسرائيلية جزءاً من إفادة رئيسة وزراء إسرائيل، غولدا مائير، التي بررت عدم إقدامها على تجنيد الاحتياط، على الرغم من تزايد المؤشرات على الاستعدادات المصرية والسورية لشنّ حرب بقولها "كانوا سيعتقدون أنني غبية. لم أستطع أن أصمد في مواجهة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ورئيس الأركان. والحقيقة أنه لم يشر أحد من أعضاء الحكومة إلى أنه قد ينبغي مع ذلك كله أن نعلن التجنيد. أعيش عقدة ذنب، لأنني لم أقترح ذلك".
ومما لا بد من ذكره أن الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، أراد من حرب 1973 التوصل إلى تسوية في الشرق الأوسط، وبعدما عرض عليه وزير خارجيته، هنري كيسنجر، الوضع الميداني، أجابه باختصار إن "النقطة الأساسية هي من يفوز بهذه المعركة. المسألة ليست مسألة أرض، وهذا ما تعلمناه من الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل إنها مسألة هل تفوز على العدو". وتفيد وثائق أميركية بأن نيكسون كان يبحث عن التوصل إلى التسوية، نتيجة تلك الحرب، لذلك، أكد لوزير خارجيته ضرورة الإشارة إلى أن الدعم العسكري المقدم إلى إسرائيل ليس هدفه استمرار الحرب، وإنما العكس، بل "الحفاظ على التوازن، ولأنه فقط من خلال التوازن يمكن التوصل إلى تسوية".
إجمالاً، سقطت في حرب السادس من أكتوبر/تشرين أول 1973 رزمة أساطير إسرائيلية وعربية في آن معاً. فالجيش الإسرائيلي لم يعد قوة لا تقهر. وحرب الشعب طويلة الأمد أو "الحرب الخاطفة" المنشودة عربيّاً وفلسطينيّاً تنحّت لمصلحة "الحل السياسي" بصيغته الكيسنجرية ومعادلة "الخطوة-خطوة". والأهم أن الجماهير العربية التي رفضت تنحي جمال عبد الناصر بعد حرب 1967، مطلقة شعار "حنحارب"، خاضت جيوشها وجنرالاتها حرب 1973، وخرجت، إثرها، مرحبة بالرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، في شوارع القاهرة ودمشق.