خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تواكب ظهور المؤسسات الثقافية المستقلة مع ظهور جيل جديد من المبدعين العرب سعى إلى تدشين حركة موسيقية مستقلة، تحمل طرحاً متنوعاً بقدر تنوّع المساهمين فيه ثقافيّاً.
حتى اللحظة، لا يسعنا تقييم آفاق التجديد والتأثير التي فتحها وأسهم فيها هذا الحراك عبر معايير مستقرة؛ لا من جهة الجودة الفنية ولا من جهة الجماهيرية المتحققة، إلّا أنّ باستطاعتنا على الأقل أن نرصد ازدياداً ملحوظاً لنشاطه، واتساعاً لقاعدة الفنانين المنضمين إليه يوماً بعد يوم.
لا شك أن قيام المؤسسات الثقافية بدورها في تمويل المشروعات الفنية، ولقاءات المبدعين العرب لإنجاز مشاريع مشتركة؛ كانا ركيزة مهمّة لهذا الحراك. امتد هذا الدور لسنوات طويلة، واعتمدت عليه بشكل أساسي تجارب عديدة في خروجها إلى النور، سواءً عبر التمويل المباشر أو الظهور على منصات هذه المؤسسات الداعمة ومهرجاناتها الفنية.
لكن لم يكن متوقعاً من هذه المؤسسات (على قلة عددها وإمكانياتها) أن تغطّي القصور الفاضح في أداء المؤسسات الرسمية، مثل وزارات الثقافة، ولا الغياب الواضح لهياكل إدارية وتسويقية تخوض بدورها في دعم المشروعات التي بدأت وانقطعت، بسبب افتقارها إلى السبل التي تعينها على الاستمرار، أو الأخرى التي لا تزال تعاني ضعف العائد المادي، رغم تحقيقها لنجاحات معقولة.
إلا أن ما فاجأ العاملين في المجال الثقافي، والفنانين الذين انخرطوا في الحركة الموسيقية المستقلة عبر أنحاء العالم العربي، كان التحول الكبير الذي أحدثته تقنيات الإنترنت، واتساع انتشار الموسيقى من خلالها منذ بداية الألفية الثالثة. إذ فتح هذا الانتشار العيون على عالم واسع من الاحتمالات والإمكانيات، التي لم تكن لتخطر على بال من ظنوا أنهم يعملون خارج دائرة الضوء. فوجد الإنتاج الموسيقي المستقل طريقه لجمهور الإنترنت الذي يستهلك الموسيقى بشكل وافر ومتنوع، ومجاني في أغلب الأحيان.
وقفزت أعمال موسيقية مستقلة إلى سوق واسعة، لم تتحدد ضوابط العرض فيها بعد، ولا تنطبق عليها قواعد التنافسية وقوانين تنظيم الملكية الفكرية بشكل منضبط، لكنها، على أي حال، وضعت هذه الأعمال ومبدعيها في دائرة المنافسة وتسليط الضوء، وحازت لعدد واسع منهم على جماهيرية من نوع جديد، صارت في ما بعد تحدياً لهذا الحراك الذي بدأ منذ عقد أو أكثر.
اتخذ هذا التحدي مستويين؛ الأول يقوم على أن اتساع القاعدة الجماهيرية، وآفاق العرض والطلب، وقد فرَضَ على الفنانين المستقلين مواكبة إيقاع هذا السوق، الذي صار متنوعاً ومتلاحقاً بصورة فاقت استعدادهم.
مواكبة فرضت بدورها تجديداً متسارعاً للمحتوى، واحتياجاً متنامياً لأفكار إبداعية جذابة. ما قد يعني بدوره، أو يُرتّب على هؤلاء المبدعين، عبئاً اقتصادياً أكبر في حالة عدم تحقيق العائد المتوقع؛ لتصبح ضريبة استمرار المشروع الفني أكثر كلفة في عالم الديجيتال. أمّا المستوى الثاني، فهو التلاشي التدريجي بحكم منصة العرض المشاعية (الإنترنت) لحاجز طالما وُضع (عمداً أو من دون عمد) بين ما اصطلح على تسميته موسيقى أو أغنيات "تجارية" وأخرى "غير تجارية".
قد يطول الجدل حول هذه المسميات وتوصيفاتها الدقيقة، وإذا ما كانت الأشكال الإنتاجية قد لعبت دوراً كبيراً في صياغة السوق الموسيقي العربي بهذا الشكل، أم أنها خاضعة لبنية ثقافية واجتماعية لا زالت متراجعة بشكل كبير، أو أن الحال هكذا في الدنيا كلها؛ إذ تنقسم المشاريع الفنية دائماً في توجهاتها وطموحاتها. لكن واقع الحال يفرض علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما طرأ على مفاهيمنا القديمة، عن طبيعة الحركة الموسيقية المستقلة وآليات إنتاجها، وخصوصيتها من عدمها.
ما نحتاجه في هذه اللحظة هو إدراك أن ما كان يجري إنتاجه عبر غطاء محدود السقف، سواءً عبر المنح الإنتاجية أو الجهود الذاتية، ليخرج إلى جمهوره المتوقع (المحدود) عبر منصات ضيقة، هو صيغة ولّى زمانها. فقد نجح فنانون لم يحصلوا على منح إنتاجية كثيرة في اختطاف الأبصار؛ فقط عبر تواجدهم بأعمالهم على الشبكة العنكبوتية. ونجح آخرون في توفير الدعم لمشروعاتهم عن طريق عائد حفلاتهم، التي يتسع جمهورها الآن بقوة، وأحياناً عن طريق مساهمات من شركات راعية ونشاطات يمكن وصفها بالدعائية/التجارية.
بالتالي، يفرض علينا هذا التغيير سؤالاً أساسياً: وفقاً لأي معايير يمكن تحديد مستحقي المنح الإنتاجية في هذا السياق؟ وفي أي اتجاه تمضي هذه المنح الإنتاجية وخططها؟
لم يعد يجوز أن تمضي المؤسسات الداعمة (إن أرادت أن تظل مساهماً نشطاً) في خطط قصيرة المدى تتضمن دعم مشروعات متناثرة، من دون أن تحاول أن تصل بها إلى مستوى التنافسية المطلوب، بل يتوجب التوجه نحو دعم مشاريع بنيوية أو هيكلية طويلة المدى كالمسارح الاحترافية وشركات الإدارة الفنية التعاونية أكثر جدوى، شرط أن تعتمد نماذج شفافة وديمقراطية جادة، وكذلك مناهج تدريبية متطورة.