الموت في مواجهة الشباب

26 نوفمبر 2014
لم يتخذ الشباب سلوكًا واحدًا للتعبير عن مطالبهم (أ.ف.ب)
+ الخط -

لم يكن يدور في خلد أباطرة القمع السياسي في البلدان العربية أن يسمعوا من يقول لهم "الموت ولا المذلة"، ذلك الشعار الذي انطلق يشق أرض الشام مفجرًا مكنونات الكرامة لدى الشعب السوري العظيم، ويعلن أعظم شعار على الإطلاق سمعناه في ربيعنا الذي أمسى اليوم يائسًا.

كانت لحظات الوفاء والتضحية تعلن وتصرخ في أوجه الظالمين أنّ هناك أملا، كانت تُقبل على الموت بصدور عارية، وأن دماءهم الطاهرة التي اختلطت بتراب الوطن ستُنبت زهرًا ينشر عبير الحرية والكرامة إلى الأبد.

لم يكن الشباب يوماً، في حالة أملٍ أكثر من تلك التي عاشوها إبان فجر الربيع العربي الذي بدأ بثورة "الياسمين"، ولم يكن أكثر يأسًا منهم اليوم في ظل انسداد الأفق، بعد ردة فعل القوى المضادة بآلة القمع والقتل التي لا تحترم شيئًا أبدًا.

تقول الإحصائيات أنّ معدل الشباب في الوطن العربي ممن أعمارهم دون 25 سنة يبلغ 70% من مجمل عدد السكان، وهي نسبة ضخمة وكبيرة تحدد مدى الصراع الحقيقي بين الأجيال الذي يعيشه العرب. ويبلغ معدل أعمار الشباب في السعودية نسبة 60% من مجمل عدد السعوديين. وهذا ما لم يستوعبه صانع القرار العربي إلى هذ اليوم؛ أنّ الشباب الذي يحمل معه آمالًا في التغيير سيبقى، وستزول الشيخوخة العربية التي تبدو كالساحرة الشمطاء التي تقتل كل من أمامها وهي في الرمق الأخير.

وجد الشباب السعودي فرصة في هذا الأمل العربي الجديد، ولم يُستثنوا من معادلة التغيير في المنطقة، بل كان لهم مطالب متعددة تبدأ في مكافحة الفساد والبطالة وتمر بحل مشاكل المعتقلين وتنتهي بالإصلاح السياسي المؤسسي.

لم يتخذ الشباب سلوكًا واحدًا للتعبير عن مطالبهم، فقد تعددت واختلفت بين كتابة آرائهم في شبكات التواصل الاجتماعي، وإطلاق حملات متواصلة للمطالب الإصلاحية عبر الإنترنت، وبيانات جماعية تعبر عن نخب منهم، وصولًا إلى المظاهرات الطلابية في الجامعات والمظاهرات الاحتجاجية لأجل المعتقلين في الأسواق والطرقات والمساجد.

ولكنّ ما حصل بعد هذه السنوات القليلة، أنّ الشباب وجدوا أنفسهم أمام هيكل ضخم لا يقبل بآمالهم وطموحاتهم، فوجد الشباب نفسه بين خيارات ليس بينها خيار إيجابي بالنسبة له، فهو إما أن يسكت ويظل مكبوتًا حتى ساعة الصفر، أو يُسجن وينال عقابًا بسبب آماله الصغيرة والكبيرة، أو يهرب من البلد موليًا من غير رجعة.

فئة خرجت عندما وجدت أنه ليس بيدها سوى الهجرة إلى بلدان أخرى بحجة الدراسة، ففي هروبها عن البلد في هذه الفترة بالتحديد ما تعتبره أسلم خيار لها في ظل عدم وجود الأمل في هذه الأوضاع القائمة اليوم.

اتخذ فريق آخر خيار الهجرة إلى القتال، ولم يكن خيارًا من بين عدة خيارات أخرى، بل كان الخيار الوحيد لهؤلاء، وتواطأت لأجله أطراف سهلت لهم عمليات الخروج. فبحسب ما يُروى أن الشباب يُحاكمون على خروجهم في المظاهرات وتُسكب في آذانهم كلمة اخرجوا واتركوا هذا البلد. ولم يكن هؤلاء الشباب ليقبلوا بالسجن سنوات طويلة فاتخذوا خيار الهروب نحو ساحات القتال.

في تفاصيل معنى هذا الخروج لفئة المطالبين بالإصلاحات سنجد أنها اتخذت القرار ليكون وسيلة للانتحار، فكثيرة تلك التعليقات التي تقول: "إنما خرجت لكي أموت". وهذا الخيار أخطر أنواع الانتحار، فهو يسخِّر موته لأجل تدمير أكبر قدر ممكن من الأوضاع القائمة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، ولذا فهو ليس انتحارًا يقضي على حياته وحده بمعزل عن الآخرين، بل ينتحر ويقتل معهم أكبر قدر ممكن من الآخرين الذين وقفوا في طريقه.

صحيح أنّ الانتحار لم يعرف طريقه إلى السعودية لكي يُشكل ظاهرة مثل مصر التي يُعلن فيها يوميا عن حوادث انتحار، وكان أشهرها وأقربها الحادثة المحزنة لانتحار الناشطة المصرية زينب المهدي التي علق على موتها الكاتب فهمي هويدي بقوله: "لم تنتحر زينب المهدي لأن لديها مشكلة شخصية، ولكن لأن مشكلاتنا أحاطت بها فكسرت قلبها ونشبت أظفارها في عنقها حتى قتلتها".

ولكنّ طريقة الانتحار في السعودية تتخذ مسارًا آخر أكثر خطورة من غيره، وهذا المسار لم يكن ليكتسب قوة الشباب إلا بعد أن أُحبطت مسارات التغيير السلمي التي كان يطلقها دعاة الإصلاح ويجاهدون لأجل كلمة الحق ويرفضون مسار العنف بوضوح لا لبس فيه، فكانت الرسالة من قمع أصحاب الجهاد السلمي وقودًا لخيار العنف والمواجهة المسلحة الذي يذهب بشبابنا إلى متاهات لا نعرف متى تنتهي.

هل يُدرك صانع القرار العربي الرسمي اليوم أنّ خطواته التي واجهت الربيع المحمّل بالآمال الكبير والصغيرة قد أدّت إلى تكوين معادلة صفرية؟ فحالة اليأس والإحباط تحمل معها رسالة واضحة لا لبس فيها أنّ التغيير لا يمكن أن يتصالح مع الأوضاع القائمة، وأنّ الطريق إلى ذلك يمرّ عبر إزالة كل الأوضاع القائمة من أساساتها وبناء صروح جديدة تبدأ من الصفر.

*السعودية

المساهمون