29 سبتمبر 2017
الموت على "فيسبوك"
يخبرني "فيسبوك" بأعياد ميلاد أصدقائي الافتراضيين على صفحتي، لكنه لا يخبرني بموت أحد. كان عيد ميلاد صديق، قبل أسابيع قليلة، وكنت لاحظت اختفاءه عن أي نشاط على صفحته أو صفحتي، فكتبت له تحية في عيد ميلاده، لأُصدم، بعد يومين، في رسالة خاصة من أخيه الذي قرأ تحيتي، يعلمني فيها أنه توفي قبل ستة أشهر. حصل هذا الأمر مرات في السنوات الماضية. صار الموت على صفحات "فيسبوك" أمراً شائعاً، وصرنا نعرف أخبار الموتى من الأصدقاء والشخصيات العامة في عالم الثقافة أو السياسة أو الصحافة، من خلال ما يكتبه أصدقاء آخرون ومتابعون لمثل هذه الأخبار. أعطت صفحات هذا الموقع من مواقع التواصل الاجتماعي فرصة للناس لكي يعبّروا عن أحزانهم أو شعورهم البائس بالفقد، من خلال كتابة نصوص الرثاء والمديح أحياناً للفقيد، وخصاله ومواقفه وأفكاره، إذا كانت تنسجم مع ما يعتقدون به ويحبونه. وربما يبالغ بعضهم في الوصف والمديح، بدافع الشعور بالذنب تجاه الموتى. وقد غدت صفحات "فيسبوك"، في أحيان كثيرة، مثل شواهد القبور. نكتب عليها ما هو خاص بمشاعرنا، وليس بما هو خاص بالراحل، ولا سيما بعد رحيله. عندما يموت شخص عزيز علينا، أبٌ أو أم أو أخ أو أخت أو صديق قريب إلى قلوبنا، ندفن في كلماتنا عنه آمالاً ورغبات وتمنيات، ونرفض أن نعترف بموتهم، ولا نقبل مواجهة الخسارة، كأن جزءاً منّا يموت ويدفن معهم.
مواجهة موت الأفراد الذين نعرفهم أمر عسير علينا، ويميل الإنسان، عادةً، وهو يعترف بموت الآخرين، إلى عدم الاعتراف بموته أو إمكانية موته الخاص، فيروح يرثي الفقيد بما يشبه خلوده هو في الكلمات. ولكي تُرضي الميل إلى خلود الموتى، قامت إدارة "فيسبوك"، قبل فترة طويلة، وبعد نقاشات داخلية، بتقديم إعداد خاص للمحافظة على صفحات الموتى، وأعطت لمن يطلب من أصدقائهم، أو أقاربهم، الصلاحية للمحافظة على صفحة الراحل، وكتابة ما يشاؤون عليها، وتغيير صورهم، مع عدم السماح لهم بمسألة واحدة، هي الدخول إلى صندوق الرسائل الخاصة، واستخدامه لقراءة الرسائل السابقة. وهكذا تُجمّد صفحة الميت، وتبقى هناك ولا يبقى دليل على رحيل صاحبها، غير صندوق رسائله الخاص الذي تدفن فيه حواراته مع أصدقائه، وربما أحبابه.
كثيراً ما نرى حالات التفجّع على صفحات "فيسبوك"، عندما نفقد أشخاصاً نحبهم ونعرفهم معرفة شخصية، لكن الناس الذين يشاهدون صور الموتى في الحروب بالعشرات أو المئات يومياً لم يعودوا يكترثون بهذه الصور، فالناس يتوقعون الموت في المناطق الواقعة تحت وطأة الحروب، ويصير الموت عادة يومية، وصور الموتى تتوقف عن تحريك مشاعر التفجع والحزن أو الألم أمام أهوالها ووحشيتها. في الحروب، نعترف بالموت ونتوقعه يومياً، ونتمناه أحياناً للغير، إذا كان عدواً لنا في الصراع الدائر في الحرب. وبذا يصير الموت رغبةً لدينا للتخلّص ممّن يسبّبون آلامنا وكوارثنا. نعترف بوجود الموت حقيقةً ملازمةً للحياة، وتختلف ردود أفعالنا تجاه أخبار الموت، وما نشاهده بالصور عن ردة فعلنا تجاه موت فرد من الأفراد القريبين منا. وتكتسب الحياة من كثرة الموت المتكرّر أهميتها القصوى الكاملة.
حين تدرس أجيال المستقبل ما يجري في سورية أو فلسطين أو العراق، اليوم، حين يصبح تاريخاً سيكون تاريخاً مصبوغاً بالدماء والقتل، وسيمثل لدارسي التاريخ سلسلة طويلة لا تنتهي من صور الموتى، وسيبحث دارسو التاريخ تعقيدات العلاقة بين القاتل والقتلى. القاتل بكل بدائيته ووحشيته، وهو يقوم بفعل القتل، من غير أن يلتفت إلى ما يتركه ذاك الفعل من جروح وفظاعة وبؤس في أرواح الأحياء. لم يعد "فيسبوك" في بلادنا صفحة مفتوحة للتسلية وتمضية الوقت والتعارف المشحون بالإيروتيكية والغواية. أصبح لدى كثيرين منا كتاباً للموت والحزن والتعزية والذاكرة المريرة.
مواجهة موت الأفراد الذين نعرفهم أمر عسير علينا، ويميل الإنسان، عادةً، وهو يعترف بموت الآخرين، إلى عدم الاعتراف بموته أو إمكانية موته الخاص، فيروح يرثي الفقيد بما يشبه خلوده هو في الكلمات. ولكي تُرضي الميل إلى خلود الموتى، قامت إدارة "فيسبوك"، قبل فترة طويلة، وبعد نقاشات داخلية، بتقديم إعداد خاص للمحافظة على صفحات الموتى، وأعطت لمن يطلب من أصدقائهم، أو أقاربهم، الصلاحية للمحافظة على صفحة الراحل، وكتابة ما يشاؤون عليها، وتغيير صورهم، مع عدم السماح لهم بمسألة واحدة، هي الدخول إلى صندوق الرسائل الخاصة، واستخدامه لقراءة الرسائل السابقة. وهكذا تُجمّد صفحة الميت، وتبقى هناك ولا يبقى دليل على رحيل صاحبها، غير صندوق رسائله الخاص الذي تدفن فيه حواراته مع أصدقائه، وربما أحبابه.
كثيراً ما نرى حالات التفجّع على صفحات "فيسبوك"، عندما نفقد أشخاصاً نحبهم ونعرفهم معرفة شخصية، لكن الناس الذين يشاهدون صور الموتى في الحروب بالعشرات أو المئات يومياً لم يعودوا يكترثون بهذه الصور، فالناس يتوقعون الموت في المناطق الواقعة تحت وطأة الحروب، ويصير الموت عادة يومية، وصور الموتى تتوقف عن تحريك مشاعر التفجع والحزن أو الألم أمام أهوالها ووحشيتها. في الحروب، نعترف بالموت ونتوقعه يومياً، ونتمناه أحياناً للغير، إذا كان عدواً لنا في الصراع الدائر في الحرب. وبذا يصير الموت رغبةً لدينا للتخلّص ممّن يسبّبون آلامنا وكوارثنا. نعترف بوجود الموت حقيقةً ملازمةً للحياة، وتختلف ردود أفعالنا تجاه أخبار الموت، وما نشاهده بالصور عن ردة فعلنا تجاه موت فرد من الأفراد القريبين منا. وتكتسب الحياة من كثرة الموت المتكرّر أهميتها القصوى الكاملة.
حين تدرس أجيال المستقبل ما يجري في سورية أو فلسطين أو العراق، اليوم، حين يصبح تاريخاً سيكون تاريخاً مصبوغاً بالدماء والقتل، وسيمثل لدارسي التاريخ سلسلة طويلة لا تنتهي من صور الموتى، وسيبحث دارسو التاريخ تعقيدات العلاقة بين القاتل والقتلى. القاتل بكل بدائيته ووحشيته، وهو يقوم بفعل القتل، من غير أن يلتفت إلى ما يتركه ذاك الفعل من جروح وفظاعة وبؤس في أرواح الأحياء. لم يعد "فيسبوك" في بلادنا صفحة مفتوحة للتسلية وتمضية الوقت والتعارف المشحون بالإيروتيكية والغواية. أصبح لدى كثيرين منا كتاباً للموت والحزن والتعزية والذاكرة المريرة.