28 يناير 2024
المهنة: دروع بشرية
يتباكى بعضهم، وأبكي معهم، على مدنيي الغوطة الشرقية، بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم، المتشظية لحومهم، غير أن دمعي سرعان ما يتصلب في مآقي عينيّ، حين أسمع أحدهم، خصوصًا من فئة اليسار المستبدّ، يتهم مسلحي الغوطة بأنهم يستخدمون المدنيين دروعًا بشرية، ويسقط من حساباته أن نظام بشار الأسد وظف الشعب كله درعًا بشرية، منذ اغتصب أبوه السلطة على ظهر الدبابة في دمشق، للدفاع عن عرشه الذي أراده مؤبدًا إلى ما بعد القيامة.
هل أذكّر من لا تنفع معه ذكرى، كيف نظر نظام الأسدين إلى الشعب السوري طوال عقود الكبت والقهر؟ هل أذكّر بسجون المزة وتدمر، وإبادات حماة، وبما حل بأزيد من نصف هذا الشعب من قتل وتدمير وإبادة وتهجير، لأقنعهم أن الشعب كله هو خارج حسابات السلطة في سورية، وفي غيرها من دول الاستبداد العربي؟
لست هنا في معرض الدفاع عن المليشيات المسلحة السورية التي تطرح نفسها في خانة "المعارضة"، وبأنها تقود ثورة الربيع السوري، لأنني لم أعد أرى فيها غير الوجه الآخر من عملة الاستبداد، وإن اتخذت لنفسها تسميات إسلامية ودينية، فلقد برهنت هذه المليشيات الممولة من الخارج أنها ما جاءت إلا لإفساد شعلة الربيع العربي كلها، ويكفي ما عانى منه المدنيون السوريون من تنكيل في "حارات" نفوذها، ولا أستبعد، والحال هذه، أن تلجأ هذه العصابات المسلحة إلى توظيف المدنيين دروعًا بشرية للإبقاء على مناطق نفوذها. غير أن ما يؤلم حقًا أن يجد الشعب السوري نفسه درعًا بشرية مزدوجة، لحماية طرفي الاستبداد، وأعني بهما نظام الأسد والتنظيمات المسلحة، فيدفع، من لحمه ودمه وأطفاله، ثمنًا لحروبٍ هو الخاسر الوحيد فيها بانتصار أو خسارة أي طرف، لأن العملة واحدة كما قلت، وذلك بعد أن خسر حرب ربيعه الحقيقي، الذي أراده تحرّرًا من ربقة الطغيان والاستبداد. ولا أدري إذا كان يدور في خلد هذا الشعب القابع في الملاجئ والمقابر الآن، ما اقترحه الرئيس الأوغندي الأسبق، عيدي أمين، وهو أحد عتاة الاستبداد الأفارقة، في بواكير حربه مع تنزانيا، إذ اقترح على الرئيس التنزاني تنظيم نزال للملاكمة بينهما شخصيًا، ومن ينتصر يكون الفائز في الحرب، وعلى الطرف المهزوم أن يسحب جيشه من أرض المعركة.
على الرغم من أن عرض عيدي أمين جاء من باب السخرية، غير أنني أجده عرضًا مقنعًا للخلاص من صراع المستبدين على السلطة، بعيدًا عن دماء شعوبهم، وهو عرضٌ صالح للتوظيف بين السلطة والمعارضة أيضًا، خصوصًا إذا كانت تلك "المعارضة" على شاكلة التنظيمات المسلحة في سورية، بل وعلى شاكلة أية معارضة شمولية تلغي الآخر، مثل "اليسار العربي" في الوقت الراهن الذي أصبح، هو الآخر، "درعًا تنظيرية" للدفاع عن الطغاة والمستبدين، بل وعن "البورجوازيين"، أيضًا، في عالمنا العربي، وهو الذي كان يطرح نفسه، سابقًا، مدافعًا عن "البروليتاريا"، والفئات المسحوقة والمهمشة، ثم انقلب فصار منافحًا عن "رأس المال" ومصالحه، بدليل أنه ينافح عن المصالح الروسية في المنطقة العربية، متناسيًا أن روسيا لم تعد وريثة "النظرية الماركسية"، ولا تطرح نفسها كذلك، بل غدت "دولة إمبريالية" محض، ذات مصالح عالمية، وبأن خلافها مع الغرب والولايات المتحدة لا يقوم على تباين نظري وعقائدي، بل هو خلاف "مصالح" وتنافس على الاستئثار بالموارد العالمية، والمواقع الجغرافية، ومنها بالطبع حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط.
عمومًا، يُحسب للمذبحة السورية المتواصلة منذ سنوات أنها كشفت عن المهنة الحقيقية للمواطن العربي التي ينبغي أن تحفر على هويته من الآن فصاعدًا، منذ لحظة ولادته، إلى جانب اسمه ومسقط رأسه، وذلك بأن يكتب مقابل المهنة: "درع بشرية"، ولا بأس أن يسبقها لقب دكتور أو مهندس أو عامل نظافة، لأن القبور الجماعية العربية باتت تتسع للجميع.
هل أذكّر من لا تنفع معه ذكرى، كيف نظر نظام الأسدين إلى الشعب السوري طوال عقود الكبت والقهر؟ هل أذكّر بسجون المزة وتدمر، وإبادات حماة، وبما حل بأزيد من نصف هذا الشعب من قتل وتدمير وإبادة وتهجير، لأقنعهم أن الشعب كله هو خارج حسابات السلطة في سورية، وفي غيرها من دول الاستبداد العربي؟
لست هنا في معرض الدفاع عن المليشيات المسلحة السورية التي تطرح نفسها في خانة "المعارضة"، وبأنها تقود ثورة الربيع السوري، لأنني لم أعد أرى فيها غير الوجه الآخر من عملة الاستبداد، وإن اتخذت لنفسها تسميات إسلامية ودينية، فلقد برهنت هذه المليشيات الممولة من الخارج أنها ما جاءت إلا لإفساد شعلة الربيع العربي كلها، ويكفي ما عانى منه المدنيون السوريون من تنكيل في "حارات" نفوذها، ولا أستبعد، والحال هذه، أن تلجأ هذه العصابات المسلحة إلى توظيف المدنيين دروعًا بشرية للإبقاء على مناطق نفوذها. غير أن ما يؤلم حقًا أن يجد الشعب السوري نفسه درعًا بشرية مزدوجة، لحماية طرفي الاستبداد، وأعني بهما نظام الأسد والتنظيمات المسلحة، فيدفع، من لحمه ودمه وأطفاله، ثمنًا لحروبٍ هو الخاسر الوحيد فيها بانتصار أو خسارة أي طرف، لأن العملة واحدة كما قلت، وذلك بعد أن خسر حرب ربيعه الحقيقي، الذي أراده تحرّرًا من ربقة الطغيان والاستبداد. ولا أدري إذا كان يدور في خلد هذا الشعب القابع في الملاجئ والمقابر الآن، ما اقترحه الرئيس الأوغندي الأسبق، عيدي أمين، وهو أحد عتاة الاستبداد الأفارقة، في بواكير حربه مع تنزانيا، إذ اقترح على الرئيس التنزاني تنظيم نزال للملاكمة بينهما شخصيًا، ومن ينتصر يكون الفائز في الحرب، وعلى الطرف المهزوم أن يسحب جيشه من أرض المعركة.
على الرغم من أن عرض عيدي أمين جاء من باب السخرية، غير أنني أجده عرضًا مقنعًا للخلاص من صراع المستبدين على السلطة، بعيدًا عن دماء شعوبهم، وهو عرضٌ صالح للتوظيف بين السلطة والمعارضة أيضًا، خصوصًا إذا كانت تلك "المعارضة" على شاكلة التنظيمات المسلحة في سورية، بل وعلى شاكلة أية معارضة شمولية تلغي الآخر، مثل "اليسار العربي" في الوقت الراهن الذي أصبح، هو الآخر، "درعًا تنظيرية" للدفاع عن الطغاة والمستبدين، بل وعن "البورجوازيين"، أيضًا، في عالمنا العربي، وهو الذي كان يطرح نفسه، سابقًا، مدافعًا عن "البروليتاريا"، والفئات المسحوقة والمهمشة، ثم انقلب فصار منافحًا عن "رأس المال" ومصالحه، بدليل أنه ينافح عن المصالح الروسية في المنطقة العربية، متناسيًا أن روسيا لم تعد وريثة "النظرية الماركسية"، ولا تطرح نفسها كذلك، بل غدت "دولة إمبريالية" محض، ذات مصالح عالمية، وبأن خلافها مع الغرب والولايات المتحدة لا يقوم على تباين نظري وعقائدي، بل هو خلاف "مصالح" وتنافس على الاستئثار بالموارد العالمية، والمواقع الجغرافية، ومنها بالطبع حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط.
عمومًا، يُحسب للمذبحة السورية المتواصلة منذ سنوات أنها كشفت عن المهنة الحقيقية للمواطن العربي التي ينبغي أن تحفر على هويته من الآن فصاعدًا، منذ لحظة ولادته، إلى جانب اسمه ومسقط رأسه، وذلك بأن يكتب مقابل المهنة: "درع بشرية"، ولا بأس أن يسبقها لقب دكتور أو مهندس أو عامل نظافة، لأن القبور الجماعية العربية باتت تتسع للجميع.