المهم الذي غاب في خطاب عباس

17 أكتوبر 2015
+ الخط -
دعا الرئيس محمود عباس أبناء الشعب الفلسطيني إلى "التلاحم والوحدة واليقظة"، في خطابه المكتوب بلغةٍ لامست سقف المتاح للسلطة أن تقوله، من موقعها وفي ظروفها، في توصيف الهمجية الصهيونية وممارسات الاحتلال المجردة من الإنسانية. ثمة جزء باق، ربما يبلغ به الخطاب سقف المتاح، وهو وضع إصبع على جرح الانقسام، لا سيما أن الرئيس عباس نفسه، وفي أثناء محاولات التوصل إلى اتفاقٍ يُكرس وحدة النظام السياسي الفلسطيني، وإنهاء الخصومة بين حركتي فتح وحماس؛ سبق أن قاوم ضغوطاً إسرائيلية استنكرت كل محاولة في هذا السياق.
هو، هذه المرة، يخاطب "أبناء الشعب الفلسطيني"، لكي يأخذوا بناصية الوحدة، علماً أن الفلسطينيين موحدون أصلاً، ولا يختلف اثنان منهم على ما قدمه من توصيف لجرائم الاحتلال، ولا خوف على وحدة "الأبناء". الناقصة، هنا، هي الدعوة الجديّة الى وحدة القوى السياسية. فهذه هي المفتقدة التي أفرزت سلطتين ونظامين بمؤسستين أمنيتين، ومنهجين لم يعد أحدهما قادراً على إقناع أبناء الشعب الفلسطيني، الموحدين وجدانياً، بجدواه وفاعليته، وصواب وجهته وحُسن أوقاته.
بؤس المشهد الفلسطيني العام، في ظل الخصومة والانقسام، يُضاهي بؤس المآل الذي انتهى إليه فلذات أكبادنا الذين لجأوا إلى السكين غضباً وانتقاماً، ثم لفظوا أنفاسهم الأخيرة، وتمددوا على الأرض مضرّجين بدمائهم. فالناس لا تتلاحم مع السلطتين في الضفة وغزة. وبسبب ذلك، يحاكم الفلسطينيون السلطتين بنتائج مسعاهما. في الضفة، تجريف للمجتمع من السياسة، وهي لازمة لشعبٍ يعاني ويواجه تحديات على مدار الساعة، وإقصائه عن المشاركة، وهُزال أطره، ووضعه في موضع المتلقي لما تقرره "المقاطعة" التي لا تشاور أحداً، ولا تتقبل نصيحة. وفي غزة، تجريف للمجتمع من عناصر حياته نفسها، واحتباس أنفاسه، ولفّه كله، غصباً عنه، بالراية الخضراء، وكتم الصوت واحتكار الأثير، لكي لا يُسمع من غزة شيء سوى صوت الطنين، وخطاب الانتصارات أو الفرقانات الفاقدة براهينها في واقع حياة الناس.
لم يكن كافياً أن يقدم الرئيس عباس توصيفاً لجرائم الاحتلال، مقروناً بإشارتين على صعيد العمل السياسي والقانوني، أي الدعوة إلى استجلاب حماية دولية للشعب الفلسطيني وللقدس، والإعلان عن تقديم ملفاتٍ لمحكمة الجنايات الدولية، فالدعوة الأولى لن يستجيب لها أحد، لأن العدو يرفض الفكرة، باعتبارها، أولاً، تتعارض مع أيدولوجيته ونظرته إلى الأراضي المحتلة. وثانياً، لأنها تمثل إدانة ضمنية لممارساته، طالما أنها دعوة لحماية الضحية من جلاديها. وثالثاً، لأنه، بغروره العسكري والعنصري، سينظر بسخرية لدعوةٍ كهذه. ورابعاً، لأن الغرب لن يتجرأ على مخالفة إسرائيل في واحدٍ من أسس عقيدتها وثوابتها.
الإبلاغ عن ملفات أرسلت وسترسل إلى محكمة الجنايات الدولية، يُحيل جرائم العدو المتكاثرة
والمتواصلة، إلى أروقة محفل قضائي، لا يتعاطى معه هذا العدو المارق وليس عضواً في ناديه. إنه مسعى آجل لسماع حكم، مثلما سمعنا حكماً ضد الجدار العنصري. لكننا، في اللحظة العسيرة والعاجلة، نفتش عن وسيلةٍ لردع الوحش المنفلت. وإن كان العالم يتخلى عن الشعب الفلسطيني، فإن العاجل هو أن يستجمع الفلسطينيون قواهم، وهذا هو فحوى ما غاب عن خطاب الرئيس الفلسطيني.
الإشارة السياسية والقانونية الغائبة عن خطاب عباس، وتتعلق بأمر جوهري ومُلح، يعزز موقفه، إن لم يفده؛ هي الدعوة إلى إنهاء حال الانقسام والخصومة، واستعادة وحدة الكيانية السياسية. كان بمقدوره أن يعرض ذلك بلغةٍ رصينة، يُضمّنها كل العناصر الموضوعية اللازمة لوحدة الكيان الفلسطيني، ومنها الواقعية بغير إسفاف وتفريط، وأن تتحاشى إدارة العمل الوطني، ذات الجُمل الأطول والأكبر من سيوفنا بكثير، والخطاب ذا الوعود الكبرى، وأن تتشارك القوى الوازنة، في صياغة استراتيجية العمل النضالي، بموقف ومنهج ثابتين قويين.
يحتقن مخزون الوعي الباطني للفلسطينيين بكثيرٍ من خيبات الأمل. فالمواطن الفلسطيني البسيط بات يشعر بخديعة وعود السياسة، كما وعود المقاومة. انتهت الوعود، للأسف، أمام عينيه، إلى لا مقاومة ولا سياسة. هنا، يميل الفلسطيني، بالسليقة، إلى الإحساس بانتهاء صلاحية الواعدين على طرفي المعادلة. فمن تبنى مشروعاً للتسوية، لا بديل عنده له، ثم غاص في أوحاله، لم يعد له شغل، ومن المنطقي أن يتنحى عن المشهد، أو يعمل على تنحيته واستنساخ مشهد آخر. كذلك فإن من تبنى مشروعاً للمقاومة، ثم وجد نفسه مضطراً لمقاومة المقاومين، والتركيز على حكم شريط ضيق ومحاصر وموجوع، من الأراضي الفلسطينية، لم يعد له شغل ولا لزوم، وعليه أن يتنحى أو أن يغير منطقه، لكي يلائم الواقع ويجاهده.
رب متسائل عن الذي نريده بديلاً لهذا اليباب. هنا، يتوجب القول إننا مطالبون، الآن، بإعادة تشكيل المسرح السياسي الفلسطيني من دون إقصاء الصالح من المادة الخام. الفلسطينيون في حاجة إلى إطار قيادي رصين ومحترم، بمحدّدات سياسية ونظامية وقانونية، جدير باستعادة تحشيد الكتلة الشعبية معه، من أمامه ومن خلفه، ويمثلها، لا أن ينتحل تمثيلها إلى الأبد. وإن أردنا الاستفادة من مقارباتٍ مطروحةٍ ولم تُجرّب بعد، يكون البدء، بالدعوة إلى اجتماع ما سُمي الإطار القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية، لوضع نظامه الداخلي، وتفعيله، والذهاب به إلى وحدة الكيانية الفلسطينية التي يعرف كل طرف فيها دوره وواجباته، فالأطر الجامعة لممثلي المجتمع لا تحيا ولا تفلح، بغير تفويض شعبي لمن يشغل مواقع المسؤولية فيها.