المنتحر بين الإدانة والتمجيد!

26 نوفمبر 2014
تراثُنا لا يخلو من تمجيدٍ لبعض المنتحرين (Getty)
+ الخط -

كم كان صادقًا وإنسانيًّا الحِراك الذي تبع خبر انتحار الناشطة المصريّة زينب مهدي، وكم كانت مؤثرةً العباراتُ التي ضجّ بها "فيسبوك"، تنعاها، وتتأسفُ لموتها، وتذكرُ مناقبها، وتُخلّد مواقفها المشهودة، وتعتذرُ عن إهمالها، والانشغال عنها، وتتمنّى لو عاد الزمانُ ساعاتٍ للوراء، من أجل طرق باب زينب، وكسر أقفال قلبها وعقلها، للسماع منها، وإعانتها، والأخذ بيدها، بعيدًا عن الحبل المشؤوم!

عادةً ما يُقابلُ الانتحار في مجتمعاتنا العربيّة بخليطٍ من الحُزن والغضب، يزاحمُ أحدهما الآخر. غير أنّ الغلبة في أكثر الأحيان للغضب والنقمة، فالمُنتحرُ قاتلٌ لنفسٍ بريئةٍ، قانطٌ من رحمة الله، معترضٌ على قضائه، عاجزٌ عن التغيير، يائسٌ من حصوله، واليأسُ، كما زعموا، خيانة. وإن كان تراثُنا لا يخلو من تمجيدٍ لبعض المنتحرين، خاصّةً ما كان من تاريخنا قبل الإسلام، إذ خلّد تاريخنا الشفويّ ما فعلتِ "الزبّاءُ" ملكةُ تدمر، حين اختارت أن تقتل نفسها، ولا تُفرح عدوّها بحبسها، وإذلالها أمام شعبها، ثم قتلِها بيده وإدراك ثأره، فانتحرت حين استيقنت الأَسْر، وقالت كلمتها المشهورة: "بيدي لا بيد عمرو". وهي حادثةٌ فريدةٌ فعلًا، وإلا فإنّ النظرة الإسلامية غلبت ختامًا على تقييم الانتحار ومرتكبيه، وثبّتته جريمةً غير قابلةٍ للنقاش فيها. غير أنّ تحوّلًا طرأ في النظرة إلى المُنتحر، رافقَ الربيع العربيّ من بدايته، إذ كانت شرارتُه رجلًا لم تحتمل كرامتُه الإهانة والبصق، والحرمان من فرص الرزق، فلم يجد وسيلةً يحتجُّ بها غير إضرام النار في نفسه.

اعتُبر "البوعزيزي" بطلًا شعبيًا، لم ينتظر الناسُ حُكمًا قضائيًا، ولا فتوى رسمية باعتباره شهيدًا، بل بالعكس، شهدنا تغيرًا فقهيًا موازيًا للمزاج الشعبيّ، ورأينا فتاوى لبعض المشايخ المؤيدين للثورات تترحّمُ عليه، وترجو له المغفرة، وأن يجعل الله ما جرى بدمه من زلزلة لعروش الظلمة كفّارةً عن إثمه بإحراقه جسده، وإزهاق روحه. منذُ تلك اللحظة، تداعى بعضُ الطيّبين المتيقّظين، منبّهين إلى خطورة هذا التحوّل في النظرة للمنتحر.

وكون هذا التحوّل يمكنُ أن يشجع آخرين على الانتحار، مع التأكيد على أنّ رجلًا انتحر احتجاجًا على ظروفٍ تمسّ الأمّة كلها، سكت عنها الناسُ، واستخذوا لها، ورضوا بها، وتمرّد هو، ليس كرجلٍ انتحر لأسبابٍ شخصيةٍ محضة، كضياع ثروة، أو زوال مجد! مثلُ هذا التنبيه وأشدُّ منه نحتاجُه اليوم، في ظلال التعاطف الإنسانيّ الراقي مع زينب رحمها الله، الشابّةُ التي عرفها كثيرون بالصدق والطيبة، والعمل الدؤوب من أجل الآخرين، وكان آخر ما نشطت فيه قضايا المُعتقلات والعُدوان عليهنّ، ولا يمكنُ إغفالُ ذلك في أسباب ما أصابها، وأدى بها إلى ما انتهت إليه.

لا شيء يثير شهوة الانتحار لدى اليائس أكثر من شعوره بأنّ موته سيُحدث ضجّةً عجز عنها حيًا! ولا كلمات تُعزّيه عن روحه التي سينتزعها بنفسه أوقعَ من عبارات الوصف بالشجاعة، وصواب القرار، وإبداء الأصدقاء ندمهم على الإهمال والتقصير. لا نريدُ بحزننا على زينب أن نقتلَ آخرين وأخريات، بالطريقة ذاتها. ولستُ أقول ذلك ضنًا بالروح على الحقّ، فثقافتُنا العربية والإسلامية تحمدُ التضحية بالروح لأجل قيم العدل والخير، وقد قال كعبٌ في بردته الشهيرة: لا يقع الطعنُ إلا في نحورهمُ *** وليس لهم عن حِياض الموت تهليلُ. لكنّ حوضَ الموتِ الذي نَرِدُه واقعٌ على طريقِ التغيير، الذي أقلّه: "ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله"، وما أشدّ بُؤسنا إذا سلكنا طريقة الانتحار، فأفرحنا عدوّنا الظالم ثلاثًا، مرّةً بالتخلّص منّا، وأخرى بإراحته من تبعات ذلك، وثالثةً بتجشّمنا عناءَ القتل، وتنفيذ المهمّة القاسية!

أما انزلاقُ بعضنا إلى خانة مديح فعل الانتحار والرضا به، فقد كان مبالغةً غير محسوبة، قد تتسبّبُ لنا بمزيد موتٍ وألم، فثمة شعرةٍ دقيقةٍ تفصلُ بين التعاطف مع المنتحر، والترحّم عليه وذكره بما هو له أهلٌ من المناقب والمآثر، وبين تمجيد الانتحار، والدعوة –غير المباشرة ولا المقصودة- إليه.

*فلسطين

المساهمون