المناطق النائية بالسعودية.. بحث لا يتوقف عن الطبيب

الرياض

خالد الشايع

avata
خالد الشايع
07 يناير 2015
+ الخط -

أصيب حسين الهاجري بحمى شديدة، تجاوزت حرارته بسببها الـ 40 درجة مئوية، لكنه لم يتجه إلى المركز الصحي القريب من قريته (أم الساهك) التي تبعد 120 كيلومترا عن مدينة الدمام (شرقي السعودية) مفضلا التحامل على نفسه، والذهاب إلى مستوصف خاص يدفع له 300 ريال في الزيارة (أكثر من 80 دولارا)، إذ يعرف أن المركز الصحي الصغير في قريته لن يقدم له الكثير، "هو وإن كان مفتوحا، لن أجد فيه سوى ممرضة تقدم حبوبا مسكنة فقط" كما يقول.

يواصل الهاجري قائلا لـ"العربي الجديد": "يسكن قريتنا الصغيرة أكثر من 1200 نسمة، ولا نجد في المركز الصحي القريب منا والذي يخدم أكثر من ست قرى أخرى ما يفيدنا، نبحث عن توفير الخدمات الصحية ولا نجدها"، ويتابع: "نعاني الإهمال الطبي بشكل كبير، المركز الصحي الصغير لا يضم سوى طبيب واحد لا يتواجد إلا قليلا وممرضة لا تفهم شيئا، أما الأدوية فلا توجد سوى مسكنات فقط، لهذا الأفضل أن نذهب للدمام وندفع من جيوبنا لنحصل على العلاج".

أمام هذا الوضع كثير من سكان القرى المجاورة يفضلون الذهاب إلى شيخ يعالجهم بالرقية الشرعية، بدلا من الذهاب للمشافي، فهي أقرب لهم وأكثر شهرة ويحظون بالكثير من التقدير.

ما تعاني منه قرية الساهك مثال لما تعانيه أكثر من 600 قرية وهجرة سعودية (الهجرة قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها الـ500 نسمة)، إحدى قاطنات الهجرات ريم الشهري معلمة في قرية الشقيق شمال الإحساء تكشف عن معاناة كبيرة يتعرضون لها بشكل يومي في تلقي العلاج الأولي، وتوضح لـ"العربي الجديد" أن كثيرا من الأطباء والممرضين الذين تعاقدت معهم الوزارة لا يعرفون قيمة الواجب الملقى على عاتقهم، المراكز الصحية في القرى مرتع خصب للكسل وعدم المبالاة بالصحة العامة".

وتتابع: "التهاون الواضح من قبل الأطباء والعاملين من أسباب هجرة أبناء البادية والقرى نحو مستشفى المدينة العام، مما سبب ضغطا كبيرا على هذه المشافي"، ريم كانت قد تعرضت بشكل شخصي لخطأ في التشخيص كاد أن يتسبب بوفاتها عندما شخص الطبيب حالتها بتلبك معوي وأعطاها مسكنا فقط، في وقت كان تعاني فيه من تضخم في الزائدة الدودية، كادت أن تنفجر في أحشائها، لكن العناية الإلهية دفعتها للذهاب إلى مستشفى الدمام، هناك اكتشف الطبيب المختص حالتها قبل أن تتفاقم ويخضعها لجراحة عاجلة، تقول ريم: "ما ذنب المواطنين البسطاء حتى يبتلوا بأطباء غير أكفاء يتعلمون فيهم".

إهمال مستمر أفقد الثقة في تلك المراكز

منذ فبراير/شباط الماضي اعتمدت وزارة الصحة التنظيم الجديد لمواعيد العمل في المراكز الصحية، وأكدت الوزارة على موقعها الإلكتروني أنها تهدف بمواعيد العمل الجديد إلى تخفيف الضغط على المستشفيات والتقليل من مواعيد الانتظار، وبحسب التعميم: "تبدأ ساعات الدوام اليومي في القرى والهجر من الساعة السابعة والنصف صباحاً في جميع المناطق، ليكون دوام العمل الرسمي تسع ساعات ونصف يومياً، من يوم الأحد إلى الأربعاء على فترتين وتسع ساعات فقط يوم الخميس على فترتين".

هذا التغيير لم يكن مفيدا بالشكل الذي تصورته الوزارة، فالمشكلة كانت في غياب الفاعلية الحقيقية لتلك المراكز وضعف نوعية الخدمة المقدمة فيها، يؤكد عضو مجلس الشورى السابق والناشط الحقوقي المختص في الجوانب الصحية الدكتور محمد آل زلفة أن "الوزارة أهملت المراكز الصحية في القرى والهجر، إلى درجة أن المواطنين فقدوا الثقة فيها وباتوا يفضلون الذهاب للمستوصفات الخاصة وعلى حسابهم الشخصي، بدلا من الاتجاه له لسوء الخدمة المقدمة والتي لا تكفي للعلاج".

يقول آل زلفة لـ"العربي الجديد": "الدولة منحت الخدمات الصحية ميزانية كبيرة، أكثر من 160 مليار ريال للعام المقبل (أكثر من 43 مليار دولار أميركي) ولكن ما يقدم للمواطنين من علاج ضعيف جدا ولا يرقى لهذه الميزانية الضخمة"، ويتابع: "هناك خلل إداري واضح في التخطيط في وزارة الصحة، خاصة فيما يتعلق بالإحصائيات السكانية في المناطق ذات الكثافة السكانية نتج عنها عدم وجود مستشفيات ومراكز صحية توازي هذه الضخامة السكانية، وأيضا هناك إهمال لصيانة تلك المشافي الموجودة فعلا".

ويضيف: "هناك خلل ولا بد من الانتباه له، ضعف المراكز الصحية في القرى والهجر النائية، هو ما يدفع المرضى للذهاب للمستشفيات العامة أو المستشفيات الخاصة، وهو ما يتسبب في تكدس المرضى فيها"، ويتابع "لا بد من تحسين مستوى الخدمات الصحية في المناطق النائية لكيلا يضطر المريض إلى السفر للبحث عن العلاج، الميزانية الضخمة التي تحظى به الوزارة لم تنعكس إيجابيا على هذا الجانب، وعلى الوزارة أن تركز أكثر على مفهوم الرعاية الصحية الأولية".

ويتهم آل زلفة وزارة الصحة بإهمال المراكز الصحية في المناطق النائية مما تسبب في فقدان الثقة فيها، ويقول: "كانت فكرة تلك المراكز الصحية رائدة ولكنها للأسف عانت من الإهمال بشكل كبير، إذ إنها لم تعد تقدم أي خدمة ولم يعد المريض يثق فيها"، ويتابع: "الوزارة تقول إن تلك المراكز تعمل ولكن في الحقيقية هي لا تقدم أي خدمة للمواطنين، ولو أنها فعلا تعمل بشكل جيد لخففت من الضغط الكبير على المستشفيات العامة".

خطأ في التخطيط

في نفس الاتجاه يؤكد استشاري طب الأسرة والأستاذ المساعد في كلية الطب الدكتور خالد القميزي، أن وزارة الصحة باتت تركز على بناء المستشفيات الضخمة، وتهمل المراكز الصحية في المناطق النائية مما تسبب في فقدان القيمة الحقيقية لتلك المراكز، ويقول لـ"العربي الجديد": "الميزانيات الضخمة التي صُرفت في الأعوام الماضية من أجل بناء مستشفيات ومراكز صحية ضخمة، وتجهيز المشافي الحالية بغرف عمليات وطوارئ وعناية مركزة كان عبارة عن صرف مبالغ غالية، لم يقابله تغيير نوعي في الخدمة الصحية المقدمة".

ويشدد الدكتور القميزي أن المشكلة أن الوزارة ركزت على بناء المستشفيات، ولم تعطِ الرعاية الصحية الأولية، خاصة في المناطق البعيدة الاهتمام المطلوب، ولهذا لم يلمس المواطن التغيير المتوقع.

جولة العربي الجديد تكشف جوانب القصور

وثقت جولة "العربي الجديد" مدى سوء الخدمات التي تقدمها المراكز الصحية في القرى والمدن الصغيرة، التي تعاني من نقص حاد في الإمكانات البشرية والمادية، غالبيتها لا يعمل فيها سوى طبيب عام، على الرغم من أن أقرب مشفى للكثير منها على بعد 200 كيلومتر، ويعاني سكان المناطق الجنوبية من السعودية أكثر من غيرهم، صعوبة تضاريس المناطق الجبلية مما يصعب التنقل للعلاج أكثر من غيره، في مركز صحي الجشة (90 كيلومترا شرق الأحساء) جلس أحمد جبوري قرابة الساعتين في انتظار الطبيب، وفي نهاية المطاف وجد أن العلاج غير متوفر في صيدلية المركز، واضطر للسفر 180 كليومترا ذهابا وإيابا للحصول عليه من صيدلية خاصة في الهفوف.

يقول جبوري لـ"العربي الجديد": "كثير من الكوادر التمريضية التي تعمل في المراكز الصحية غير مدربة وغير مؤهلة، تفتقر إلى أبسط المقومات التي يجب أن تكون عليه"، ويتابع: "في كثير من الأوقات نضطر إلى الذهاب للمستشفيات للحصول على الدواء أو شرائه من الصيدليات الخاصة".

إلى جواره جلس فهد البقمي مع والدته المسنة المصابة بارتفاع في ضغط الدم في انتظار الطبيب الذي تأخر أكثر من ساعتين عن موعده، يستلم البقمي دفة الحديث  قائلا بغضب واضح: "المرضى أغلبهم توقفوا عن مراجعة المراكز الصحية الأولية لما لاحظوه من تدن في خدماتها، حتى لو كانوا بأمس الحاجة إلى الخدمة الصحية، والسبب يكمن في غياب الحد الأدنى من الرعاية وعدم التعامل الجيد مع الحالات الطارئة وتعطل سيارات الإسعاف بصفة شبه دائمة".

يتابع :"للأسف والدتي كبيرة في السن ولا تستطيع الذهاب للدمام؛ لهذا إنها مضطرة على التحمل والانتظار، مع أنني أعلم أن العلاج غير متوفر، ولا بد من السفر للهفوف للحصول عليه".

في الجنوب لا تختلف الصورة بل تكاد تكون أكثر سوءا، الكثافة السكانية في القرى الجنوبية أكبر وهو ما يجعل الزحام في المراكز الصحية أكبر من غيره، وصعوبة السفر إلى المدن الكبيرة يجبر المرضى على الانتظار لساعات طويلة، في مركز الغمرة (شمال منطقة رجال ألمع في أقصى جنوب السعودية) يكشف سعيد الوادعي أن المركز يكتظ بزحام شديد في انتظار الطبيب الذي يعالج مع زميلين له أكثر من 200 مريض يوميا، يأتون من أكثر من سبع قرى محيطة بالمركز، يضيف لـ"العربي الجديد": "تشهد عدد من المراكز الأخرى تعطلا أو نقصا في الأجهزة الخاصة بالمختبرات، ويعتذر العاملون فيها عن استقبال الحالات بسبب تعطل جهاز أو عدم توفره، وهذه مشكلة تستمر يوميا".

معاناة مضاعفة

لا يقتصر الأمر على معاناة المرضى فقط، إذ يعاني العاملون في تلك المراكز أيضا، وعدا أنهم يسكنون في مناطق نائية تفتقر لأبسط مقومات الحياة التي اعتادوا عليه، فإنهم يعملون أوقاتا أطول من غيرهم ولمدة ستة أيام في الأسبوع، يقول أحد العاملين في مركز قريب من بلدة سيهات التي تبعد 40 كليومترا عن الدمام: "نعمل أكثر من 60 ساعة يوميا مقسمة على ستة أيام بداية من يوم السبت وحتى يوم الخميس، فلا يجد من يعمل في هذه المراكز الصحية من الوقت وما يمكنه من الجلوس مع عائلته وأبنائه وتلبية متطلباتهم، فضلاً عن التواصل الاجتماعي إلا يوم الجمعة، وكثير من القرى لا يربطها بالمدن سوى طرق ترابية".

يتابع الطبيب -الذي فضل ألا يذكر اسمه- كي لا يتعرض للعقاب من الوزارة: "نأمل من وزير الصحة الجديد الدكتور محمد آل هيازع أن يقوم بمساواتنا مع من يعمل في المدن، علماً أنه لا توجد أي فروقات أو امتيازات لمن يعمل في القرى".

مشكلة في تشغيل المراكز النائية

يعترف محمد الهبدان مدير الشؤون الصحية في منطقة الحدود الشمالية (أقصى شمال السعودية) بوجود "بعض القصور" في المناطق النائية، ولكنه يرجع ذلك إلى صعوبة التشغيل لعدم موافقة الممرضين والأطباء على العمل في المناطق النائية والبعيدة، وبحسب الهبدان تنقسم مراكز الرعاية الصحية الأولية إلى ثلاثة أقسام الفئة (أ) هي المراكز الصحية داخل المدن والمرتبطة بكثافة سكانية فوق الـ15 ألف نسمة، وفيها يكون أطباء طب أسرة واستشاريون وأطباء عموم وجميع التخصصات، أما فئة (ب) فهي من خمسة آلاف وأكثر، أما فئة (ج) فهي البعيدة عن المناطق الخدمة ولا يوجد فيها كثافة سكانية.

يقول الهبدان لـ"العربي الجديد": "بعض الهجر يسكنها 500 نسمة، ولو وضعنا لها طبيبا يكون هناك طبيب لـ500 نسمة، بينما المعدل في المدن طبيب لكل ثلاثة آلاف نسمة"، ويضيف: "سكان المناطق النائية حصلوا على حقهم من التغطية، ولكن الخدمة المقدمة لهم هي الرعاية الصحية الأولية فقط والتي تشمل الأزمات الروتينية ولدغات العقارب وغيرها".

يواصل الهبدان: "الكل يريد خدمات أعلى ولكن عندما نأتي للتشغيل يكون الأمر صعبا، مثلا في الحدود الشمالية ترفض أغلب الممرضات العمل في المناطق النائية وتفضل البقاء في المدن، لهذا التشغيل بات صعبا، هذه القرى ليست مناطق جاذبة فالمشكلة ليست في الخدمة ولكن في التشغيل".

يفند الهبدان شكاوى العاملين في المراكز البعيدة مؤكدا أنهم يحصلون على بدل كاف لساعات عملهم الطويلة، ويقول: "العاملون في تلك المراكز يتقاضون بدلا لأوقات العمل التي يؤدونها، ولكن للأسف التنظيم الأخير الذي طبقة المهندس عادل فقيه المكلف السابق بوزير الصحة (وزير الصحة المؤقت)، لم يكن عمليا بإقرار العمل فترة واحدة، فتحديد فترات العمل يفترض أن يكون حسب حاجة العمل، وبما أن الطبيب يسكن في المركز ذاته فإنه يكون تحت الطلب مثل المستشفيات في المدن، وعندما يكون هناك طبيبان في القرية يخف الضغط على كل منهما، إجمالا هم يعلملون في الشهر 179 ساعة وهي تعني 45 ساعة أسبوعيا، ويعوض النقص بأن يكون الطبيب تحت الطلب".

حسناً، ربما يكون التشغيل صعبا، لكن مرضى مثل محمد الحكمي يأتون للمركز بحثا عن العلاج لا يجدونه بسهولة، ولأنه لا خيار آخر لهم، يضطرون للقبول بما هو متاح، يقول الحكمي لـ"العربي الجديد: "لا نستطيع السفر إلى المستوصفات الخاصة لطلب العلاج ولهذا لا حل لنا سوى الانتظار لساعات طويلة، حتى ولو كان العلاج الذي يقدم لها لا يغني في كثير من الحالات".