07 اغسطس 2024
المملكة والربيع العربي
وقعت، في أواخر شهر إبريل/ نيسان 2012، أزمة دبلوماسية بين السعودية ومصر التي كانت في عنفوان ثورتها في ذلك الحين، حيث تظاهر نشطاء أمام السفارة السعودية في القاهرة، احتجاجا على احتجاز محام مصري في المملكة، ما دفع الأخيرة إلى سحب سفيرها للتشاور. خلال أيام، سافر وفد مصري برئاسة رئيسي مجلسي الشعب والشورى المنتخبين، سعد الكتاتني وأحمد فهمي المنتميين لحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة لإخوان المسلمين، وبعضوية عشرات النواب والسياسيين المصريين، وفي مقدمتهم نواب من حزب النور السلفي، ثاني أكبر الأحزاب المصرية في حينه.
كانت سرعة سفر الوفد وحجمه وطريقة تعامله مع قادة المملكة تعبر عن حجم النفوذ السياسي والاقتصادي والتقليدي الذي تتمتع به المملكة في أوساط أكبر القوى السياسية المصرية التي أفرزتها ثورة يناير، وهم الإخوان والسلفيون، ومن خلفهم أحزاب تقليدية كالوفد، على الرغم من انتقادات شباب الثورة الشديدة لذلك النفوذ. وهو نفوذ لم يكن سياسيا واقتصاديا فقط، بل كان يعبّر عما هو أعمق، أو عمّا يمكن تسميته بالقوة الناعمة للمملكة، حيث حظيت في ذلك الحين، بدعم جماهيري قوي وواسع، ليس فقط في أوساط قيادات التيارات الدينية التي عاش بعضها في المملكة ومال نحو السلفية، ولكن أيضا وسط الشعب المصري الذي احتفظ للمملكة بمكانة خاصة، واحترمها بشكل تقليدي، ضمن احترامه المؤسسات والقوى الرئيسية في المنطقة.
ويبدو أن المملكة خسرت كثيرا من قوتها الناعمة في السنوات الست الأخيرة، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم العربي كله، وخصوصا بعد دعمها انقلاب يوليو/ تموز 2013 العسكري في مصر، واستمرار دعمها نظامه، على الرغم مما ارتكبه من جرائم وانتهاكاتٍ في حق الشعب المصري، هذا بالإضافة إلى مواقفها عبر المنطقة، التي مالت نحو دعم الأنظمة القديمة على حساب الثورات ورغبة الشعوب في التغيير.
ولعل موقف المملكة من ثورتي سورية واليمن، واستضافتها قيادات معارضة سورية ويمنية
خلال تلك الفقرة، استمر نوع من التحالف الضمني بين قوى الربيع العربي والمملكة، بسبب موقف الأخيرة الداعم لثورتي سورية واليمن، من خلال رفضها نظامي بشار الأسد في سورية وتحالف علي عبدالله صالح مع الحوثيين في اليمن، وهو ما دفع بعضهم إلى تناسي موقف السعودية من مصر، أو أشعرهم على الأقل بإمكانية أن تغير المملكة مواقفها تباعا، وهي آمال تبخرت مؤخرا.
ولعل السؤال الذي يحير كثيرين: لماذا تتخذ المملكة هذا الموقف من قوى الربيع العربي، على الرغم من أن وقوفها معه كان سيعود عليها بمكاسب كثيرة، في مقابل الخسائر التي تعود عليها لوقوفها ضده؟ إنها الأسباب التالية:
أولا: انحياز المملكة لقوى الثورة المضادة في بلاد، مثل مصر وليبيا وغيرهما، وما إلى ما تقوم به هذه الدول من انتهاكات جسيمة، يفقد المملكة كثيراً من قوتها الناعمة، المتمثلة في التعاطف الذي اكتسبته في أوساط الشعوب العربية بمختلف طوائفها. فهو يفقدها التعاطف في أوساط أبناء التيار الديني القوي، والذين مالوا إيدلوجيا نحو المملكة، واعتبرها بعضهم في هذا التيار نموذجا يُحتذى. ويفقدها التعاطف في أوساط فئاتٍ جماهيريةٍ غير مسيسة، احترمت المملكة بشكل تقليدي محافظ، وترفض مواقف المملكة الحالية المساندة للنظم المستبدة، هذا إضافة إلى فئات الشباب، والمنادين بالحقوق والحريات، والتي لا تبحث عن دعم جماعة كالإخوان المسلمين أو السلفيين، ولكنها كانت تأمل في أن تحترم المملكة رغبة الشعوب العربية في التغيير والتحرّر من الاستبداد.
ويُلاحظ، مثلا، أن مواقف المملكة السياسية أدت إلى تراجع التعاطف الشعبي نحو الجماعات السلفية التي تحولت إلى أحزابٍ لها وزنها بعد الثورات، وهي أحزابٌ تدين بقدر كبير من الولاء للمملكة وعلمائها السلفيين، بل أغلب الظن أن الظاهرة السلفية، في صيغتها السعودية بعلمائها الكثيرين في تراجع، خصوصا بعد صمتهم على انتهاكاتٍ كثيرةٍ، صدرت عن قوى الثورة المضادة في المنطقة، وهي بدون شك خسارةٌ واضحةٌ للمملكة وقوتها الناعمة.
ثانيا: موقف المملكة من الربيع العربي لا بد وأن يُضعف مواقفها في قضايا مهمة لها، خصوصا في حربي سورية واليمن، فستجد جماعاتٌ ثوريةٌ كثيرة صعوبةً بالغة في التعاون مع المملكة، نظرا إلى خوفها من أن المملكة، في ظل تحالفها الراهن مع دول كالإمارات ومصر، سوف تدعم، في النهاية، قوى مواليةً للثورات المضادة أو الأنظمة، ولن تسمح بصعود قوىً ثورية تؤمن بالديمقراطية. ولا بد وأن يساهم هذا الموقف في تقوية إيران التي تعتبرها المملكة خصمها الرئيس في المنطقة، فستستفيد إيران من الانقسام في تحالفات المملكة، لتحقيق مزيدٍ من التوسع في العراق وسورية ولبنان واليمن وغيرها من الدول العربية.
ثالثا: يعدّ تعويل المملكة على الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في مواقفها الأخيرة محيرا،
رابعا: يتبنى ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، رؤيةً لتحديث اقتصاد المملكة، من خلال تنويع مصادر الدخل، وتشجيع القطاع الخاص، وتقليل الاعتماد على النفط والدولة، وفرض بعض الضرائب، وهي إصلاحاتٌ تصب في اتجاه تفعيل دور المجتمع السعودي الشاب في اقتصاد بلاده، ويفرض على المملكة أن تفكّر في أهمية تقديم إصلاحات سياسية تدريجية تباعا، وأن تستفيد من بعض رياح الربيع العربي، وتتماشى معها ما دامت تتوافق مع مصلحة السعودية وشعبها.
المملكة دولة ليست صغيرة، فهي الاقتصاد العربي الأكبر، وتعدادها حوالي 31 مليون شخص، 45% منهم تحت سن الخامسة والعشرين، ما يعني أن ما يصلح لبعض الدول الخليجية الأصغر قد لا يصلح بالضرورة للمملكة.
والملاحظ هنا أن الربيع العربي لا يجب اختزاله في بعض الدول، أو الجماعات التي دعمته وشاركت فيه، فهو لا يرتبط فقط بدور دول، كقطر وتركيا، أو جماعات كالإخوان المسلمين والسلفيين وبعض الشباب. القضية الأساسية هي بحث المواطن العربي عن صيغة جديدة لعلاقته بدولته، صيغة تقوم على محاور ثلاثة، المؤسسات وحكم القانون والتنمية، والباب مفتوح أمام المملكة وغيرها من دول المنطقة، لمنافسة قوى الربيع العربي والتفوق عليها ليس من خلال التحالف مع الديكتاتوريات والإصرار على قمعها، وما يترتب على ذلك من خسائر فادحة للجميع. ولكن، من خلال تقديم نموذج أفضل في حكم القانون والمؤسسات وتنمية المواطن والمجتمع.