24 أكتوبر 2024
الملف الاجتماعي والأزمة في تونس
ربما كان من المفارقات الغريبة أن يكون شهر يناير/كانون الثاني هو الأكثر ارتباطا بالانتفاضات والتحركات الاجتماعية طوال التاريخ السياسي لتونس ما بعد الاستقلال. منذ تحركات 25 يناير 1978 ثم أحداث الخبز في يناير 1984 ومرورا بالثورة التي أطاحت نظام بن علي يناير 2014 وحتى الأحداث المستجدة أخيراً (يناير 2016)، وكان الخيط الناظم بين كل هذه التحركات خلفيتها الاجتماعية، سواء احتجاجاً على زيادة الأسعار أو مطالبة بالتشغيل، أو رفضا للسياسات الحكومية العاجزة عن حل المشكلات الحادة التي يعانيها المواطن التونسي.
غير أن ما يميز الاحتجاجات الجديدة أنها تأتي في سياق سياسي ووطني مختلف عن سابقاتها، من حيث أنها تحصل بعد الثورة التي اندلعت هي نفسها على خلفية اجتماعية، وضد حالة الانغلاق السياسي في ظل حكم بن علي. وأن محاولة تشريح الواقع الاجتماعي الذي أفضى إلى التحركات الأخيرة يمكن أن نلاحظ، من خلاله، أن هذه الاحتجاجات كشفت عن عجز الحكومات المتتالية بعد الثورة عن إيجاد حل جذري لأزمة التشغيل الحادة التي تشهدها البلاد، في ظل تراجع الاستثمار، وتقلص نسبة النمو بشكل يثير القلق. وإذا كانت الجهات الرسمية حاولت إيجاد تبريرات لفشلها في رسم خطط واعدة، تمنح الأمل للفئات الشبابية، وخصوصاً من حاملي الشهادات العليا في الحصول على موطن شغل، فالأكيد أن هذه التحركات تكتسب مشروعيتها من عوامل متعددة، فالمناطق الداخلية المهمشة التي انطلقت منها التحركات ما زالت، وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على الثورة، تعاني غياب تنمية فعلية وحلول جذرية لمشكلات الفقر والتهميش والبطالة، كما أن الأزمة الحقيقية تكمن في الفساد المتوارث الذي ما زال ينخر البيروقراطية الرسمية، والتي استمرت تمارس بالمنطق والعقلية نفسيهما اللذيْن كانا زمن حكم الاستبداد، وهو ما يقتضي، بدايةً، إصلاحا عميقاً في أجهزة الحكم والإدارة ومحاربة انتشار الرشوة والفساد وإرساء منظومة الحكم الرشيد.
ومن ناحية أخرى، إن توجيه الاتهام لجهات معينة بإثارة الفوضى لا تكفي، وحدها، لتفسير ما جرى، فإذا كانت بعض حالات النهب والسلب وقطع الطرق تثير أكثر من سؤال حول من يحرّكها، ويدفع نحوها، فإن الوضع الاجتماعي المتفجر قابل بطبيعته للاشتعال، وهو ما ظلت الحكومة المنتخبة تتلكأ في التعامل معه بما يقتضيه من جدية. وبما أن التقاطعات بين السياسي والاجتماعي مما لا يخفى في المشهد التونسي، بمعنى أن حالة التردد وغياب الإرادة التي تميز الأداء الحكومي راكمت المشكلات، ولم تسع إلى حلها. كما أن سعي بعض جهات المعارضة إلى توظيف الأحداث سياسياً، والدفع نحو إطاحة الحكومة الحالية، لا يمثل حلا بقدر ما هو خلط للأوراق، واستغلال للظرف، ولحالة الأزمة الاجتماعية، لأن المشكلات الحالية أكبر من أن تتمكن أي حكومة من حلها، وبصورة عاجلة وبشكل نهائي. فالمطلوب بداية فتح حوار وطني جدي، تشارك فيه جميع الأطراف السياسية والاجتماعية من أجل وضع مقترحاتٍ واقعيةٍ وقابلةٍ للتحقق، ضمن إمكانات الدولة، بعيداً عن الشعارات والأداء الفوضوي في الشارع.
يمثل المشهد الاجتماعي في تونس ما بعد الثورة، وخصوصاً مشكلة البطالة، القضية المركزية
التي ينبغي العمل على حلها، وهو ما يبدو أن الحكومة الحالية عاجزة عن التعامل معها بما تقتضيه من حرص، خصوصاً في ما يتعلق بتعيين المسؤولين على المستوى المحلي من معتمدين وولاة (سبب الأزمة في القصرين حالة فساد وسوء تصرف من أحد المسؤولين المحليين). وثانياً، التوقف عن إقرار حلول مستعجلة، هدفها تسكين الأزمة أكثر مما هو العمل على حلها جذرياً عبر الابتعاد عن آليات التشغيل الهش، وغير المنتج. ثالثاً، مصارحة الشعب حول الأزمات التي تمر بها الدولة في المجال الاقتصادي، ومحدودية قدرتها على التوظيف. رابعاً، محاربة الفساد المستشري، خصوصاً في قطاع رجال الأعمال ممن استفادوا من قروضٍ ضخمة من البنوك، من دون سعي فعلي الى إرجاعها، فالتنمية لا يمكن أن تتحقق بصورة مفاجئة، بقدر ما هي نتاج سيرورة من العمل المتواصل، في ظل الشفافية والحكم الرشيد.
وعلى الرغم من أن خطاب الرئيس الباجي السبسي، جاء مطمئنا للشارع، مفعماً بالوعود، فإن أسلوب المعالجة للأزمة الحالية تقتضي مأسسة الحوار الاجتماعي والسياسي في البلاد، حتى تتمكن جميع الأطراف من المشاركة في إبداع حلول ممكنة للمشكلات المزمنة للدولة التونسية، والتي توارثتها منذ عهود الاستبداد.
لقد تمكّنت تونس من قطع خطوات فعلية في المجال السياسي، عبر إقرار دستور جديد ومحاولة بناء نظام سياسي أكثر ديمقراطية وتعددية، غير أن الوضع الاجتماعي يلقي بظلال قاتمة على المشهد، وقد يصبح مدخلاً لتقويض كل المنجز السياسي، خصوصاً في ظل رغبة قوى دولية وامتدادات محلية لها بتقويض المسار السياسي الحالي، وإعادة البلاد إلى مربع الاستبداد، أو إدخالها نفق الفوضى. الوضع الحالي لحظة فارقة في تاريخ تونس السياسي، حيث يتطلب جهداً مضاعفاً وإجماعاً وطنياً لمجاوزة الأزمة، والدفع نحو التقدم بخطوات ثابتة في اتجاه مزيد من الديمقراطية السياسية والإصلاح الاجتماعي، وحل مشكلات البطالة والتهميش والتفاوت بين الجهات، ومحاربة لوبيات الفساد، وتحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم لغالبية المواطنين، في بلد ثار شعبه يوماً رافعاً شعار "شغل حرية كرامة وطنية".
غير أن ما يميز الاحتجاجات الجديدة أنها تأتي في سياق سياسي ووطني مختلف عن سابقاتها، من حيث أنها تحصل بعد الثورة التي اندلعت هي نفسها على خلفية اجتماعية، وضد حالة الانغلاق السياسي في ظل حكم بن علي. وأن محاولة تشريح الواقع الاجتماعي الذي أفضى إلى التحركات الأخيرة يمكن أن نلاحظ، من خلاله، أن هذه الاحتجاجات كشفت عن عجز الحكومات المتتالية بعد الثورة عن إيجاد حل جذري لأزمة التشغيل الحادة التي تشهدها البلاد، في ظل تراجع الاستثمار، وتقلص نسبة النمو بشكل يثير القلق. وإذا كانت الجهات الرسمية حاولت إيجاد تبريرات لفشلها في رسم خطط واعدة، تمنح الأمل للفئات الشبابية، وخصوصاً من حاملي الشهادات العليا في الحصول على موطن شغل، فالأكيد أن هذه التحركات تكتسب مشروعيتها من عوامل متعددة، فالمناطق الداخلية المهمشة التي انطلقت منها التحركات ما زالت، وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على الثورة، تعاني غياب تنمية فعلية وحلول جذرية لمشكلات الفقر والتهميش والبطالة، كما أن الأزمة الحقيقية تكمن في الفساد المتوارث الذي ما زال ينخر البيروقراطية الرسمية، والتي استمرت تمارس بالمنطق والعقلية نفسيهما اللذيْن كانا زمن حكم الاستبداد، وهو ما يقتضي، بدايةً، إصلاحا عميقاً في أجهزة الحكم والإدارة ومحاربة انتشار الرشوة والفساد وإرساء منظومة الحكم الرشيد.
ومن ناحية أخرى، إن توجيه الاتهام لجهات معينة بإثارة الفوضى لا تكفي، وحدها، لتفسير ما جرى، فإذا كانت بعض حالات النهب والسلب وقطع الطرق تثير أكثر من سؤال حول من يحرّكها، ويدفع نحوها، فإن الوضع الاجتماعي المتفجر قابل بطبيعته للاشتعال، وهو ما ظلت الحكومة المنتخبة تتلكأ في التعامل معه بما يقتضيه من جدية. وبما أن التقاطعات بين السياسي والاجتماعي مما لا يخفى في المشهد التونسي، بمعنى أن حالة التردد وغياب الإرادة التي تميز الأداء الحكومي راكمت المشكلات، ولم تسع إلى حلها. كما أن سعي بعض جهات المعارضة إلى توظيف الأحداث سياسياً، والدفع نحو إطاحة الحكومة الحالية، لا يمثل حلا بقدر ما هو خلط للأوراق، واستغلال للظرف، ولحالة الأزمة الاجتماعية، لأن المشكلات الحالية أكبر من أن تتمكن أي حكومة من حلها، وبصورة عاجلة وبشكل نهائي. فالمطلوب بداية فتح حوار وطني جدي، تشارك فيه جميع الأطراف السياسية والاجتماعية من أجل وضع مقترحاتٍ واقعيةٍ وقابلةٍ للتحقق، ضمن إمكانات الدولة، بعيداً عن الشعارات والأداء الفوضوي في الشارع.
يمثل المشهد الاجتماعي في تونس ما بعد الثورة، وخصوصاً مشكلة البطالة، القضية المركزية
وعلى الرغم من أن خطاب الرئيس الباجي السبسي، جاء مطمئنا للشارع، مفعماً بالوعود، فإن أسلوب المعالجة للأزمة الحالية تقتضي مأسسة الحوار الاجتماعي والسياسي في البلاد، حتى تتمكن جميع الأطراف من المشاركة في إبداع حلول ممكنة للمشكلات المزمنة للدولة التونسية، والتي توارثتها منذ عهود الاستبداد.
لقد تمكّنت تونس من قطع خطوات فعلية في المجال السياسي، عبر إقرار دستور جديد ومحاولة بناء نظام سياسي أكثر ديمقراطية وتعددية، غير أن الوضع الاجتماعي يلقي بظلال قاتمة على المشهد، وقد يصبح مدخلاً لتقويض كل المنجز السياسي، خصوصاً في ظل رغبة قوى دولية وامتدادات محلية لها بتقويض المسار السياسي الحالي، وإعادة البلاد إلى مربع الاستبداد، أو إدخالها نفق الفوضى. الوضع الحالي لحظة فارقة في تاريخ تونس السياسي، حيث يتطلب جهداً مضاعفاً وإجماعاً وطنياً لمجاوزة الأزمة، والدفع نحو التقدم بخطوات ثابتة في اتجاه مزيد من الديمقراطية السياسية والإصلاح الاجتماعي، وحل مشكلات البطالة والتهميش والتفاوت بين الجهات، ومحاربة لوبيات الفساد، وتحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم لغالبية المواطنين، في بلد ثار شعبه يوماً رافعاً شعار "شغل حرية كرامة وطنية".