02 نوفمبر 2024
المقامة القهرمانية
يقترح سعيد مهران، بطل رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، بعدما اكتشف عهر رؤوف علوان، الثوري السابق والانتهازي اللاحق، تقسيم المجتمع إلى فئتين: اللصوص والكلاب. وعلى قاعدة التثليث المصري القديم، يمكن إضافة فئة ثالثة، هي فئة القهرمانيين التي تشترك لفظاً ووضعاً، أي معنى ومبنى، مع طراز القهرمانات اللواتي ذاع صيتهن في حكايات ألف ليلة وليلة، أو بين حريم السلاطين في العصور التركية. وأفضل ما يجسد ثقافة القهرمانيين، إناثاً كانوا أم ذكوراً، هم التوابع كما يظهرون في مسرحية ألفريد فرج الموسومة بعنوان "علي جناح التبريزي وتابعه قفة"، أو في مسرحية برتولد بريشت "السيد بونتيلا وتابعه ماتي"، أو مثل دليلة وابنتها النصّابة في "ألف ليلة وليلة". ولأن رؤوف علوان جبان ومتردّد، فإنه يستخدم كل ما هو متاح للحفاظ على مواقع رجليه. وهذه هي، بالتحديد، انتهازية "المثقف". وثمّة صنف آخر من هذه الفئة هي شخصية علي الزيبق، التي تتصف بالمكر والدهاء، والغباء أحياناً، فهو إنسان عويل، لكنه يعتقد أنه شجاع وجميل، وكثيراً ما أحدث الخراب ويخال إن ما قام به لا يُعاب.
كيف تلتهم الأفعى العصفور؟ إنها تتسلل من شقوق الأرض، حتى تجد عصفوراً وادعاً متشاغلاً في التقاط الحَبّ. وحين تصبح على مبعدة أمتار منه، تنتصب فجأة أمامه، فيشلُّ الخوفُ مفاصلَه. حينذاك، تقترب منه بهدوء، وتلتهمه من دون أن يبدي أية مقاومة أو حراك. ولو كان العصفور يدرك أنه خُلِق ليطير، وأن الأفعى خُلقت لتزحف، لكان أنقذ نفسه بالتحليق، ما إن تنتصب الأفعى أمام عينيه. لذلك، تنتصر الزواحف أحياناً، وخلافاً لعقلانية الطبيعة، الأمر الذي جعل الأديب الكبير، سعيد تقي الدين، ينحت مصطلح "الزحفطونيون" ليدل على الذين يزحفون على بطونهم في سبيل غاياتهم غير النبيلة. وهؤلاء صاروا اليوم في كل مكان، وهم أكثر من عدس الشام وحصى الشواطئ وبلوط الجبال وزيتون فلسطين. إنهم، باختصار، أرزقية العصر الجديد. غير أن القهرمانيين وتوابعهم ليسوا بلا فضيلةٍ البتة، فهم مثل التوابل، التي تُعيننا على ابتلاع الأطعمة، وعلى إخفاء روائحها.
كانت كتب المسامرات والفكاهة، أمثال "نوادر جحا" و "تودد الجارية" و "نمر العدوان" و "شما وزهر البان" و "الفاشوش في حكم القراقوش" للأسعد ابن مماتي و "هز القحوف" ليوسف الشربيني، تكتب للتسلية، وتروى أمام مدافئ الشتاء. واليوم، صارت الحياة اليومية تقدم لنا ما لا يُحصى من المساخر والمهازل، وتحوّلت مجالس المثقفين إلى ما يشبه "المضحكخانة". لكن، ليس على طريقة فولتير وسخريته من "كانديد" الساذج، بل على غرار السخرية من "ميكرو ميغاس"، أي "الصغير والكبير" بحسب اللغة اليونانية، وهي تعني السخرية من مفارقة "الحمقى". فإذا كانت سخرية فولتير تنبع من التضاد بين الإنسان الساذج وزهوه الفارغ، فإن ديدن العويل في أيامنا هذه هو الزهو بما يفعل من "مآثر" مضحكة.
كحمار السوءِ إن أشبعتَه/ ركل الناس وإن جاع نهق
هذا هو عصر غلبة أهل الولاء على أهل الخبرة. وفي نهاية المطاف، يتكشف دائماً أن "ميكرو ميغاس" لا يختلف عن "كانديد"، أو عن جحا، فالواحد منهم لم يقرأ في حياته إلا كتاب تأخير المعرفة، وكتاب نسيان العلوم ودروس نقصان الفهم. ويمكن العثور على نماذج من هؤلاء في كتابٍ قديم، هو "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن قيِّم الجوزية، تلميذ ابن تيمية. وبهذا الاختلاط، تشابه علينا السواد، كما يقول هيغل: "بقرات سود في ليل أسود". وما برح الناس يتدافعون، إما على خُطا أشعب الكندي وتوابعه، أو على غرار الحُطيئة، وجميعهم يرددون: "عندما تتولى القردة سلطان الحكم، فارقص أمامهم كما يرقصون".
أبكي عليكم.
كيف تلتهم الأفعى العصفور؟ إنها تتسلل من شقوق الأرض، حتى تجد عصفوراً وادعاً متشاغلاً في التقاط الحَبّ. وحين تصبح على مبعدة أمتار منه، تنتصب فجأة أمامه، فيشلُّ الخوفُ مفاصلَه. حينذاك، تقترب منه بهدوء، وتلتهمه من دون أن يبدي أية مقاومة أو حراك. ولو كان العصفور يدرك أنه خُلِق ليطير، وأن الأفعى خُلقت لتزحف، لكان أنقذ نفسه بالتحليق، ما إن تنتصب الأفعى أمام عينيه. لذلك، تنتصر الزواحف أحياناً، وخلافاً لعقلانية الطبيعة، الأمر الذي جعل الأديب الكبير، سعيد تقي الدين، ينحت مصطلح "الزحفطونيون" ليدل على الذين يزحفون على بطونهم في سبيل غاياتهم غير النبيلة. وهؤلاء صاروا اليوم في كل مكان، وهم أكثر من عدس الشام وحصى الشواطئ وبلوط الجبال وزيتون فلسطين. إنهم، باختصار، أرزقية العصر الجديد. غير أن القهرمانيين وتوابعهم ليسوا بلا فضيلةٍ البتة، فهم مثل التوابل، التي تُعيننا على ابتلاع الأطعمة، وعلى إخفاء روائحها.
كانت كتب المسامرات والفكاهة، أمثال "نوادر جحا" و "تودد الجارية" و "نمر العدوان" و "شما وزهر البان" و "الفاشوش في حكم القراقوش" للأسعد ابن مماتي و "هز القحوف" ليوسف الشربيني، تكتب للتسلية، وتروى أمام مدافئ الشتاء. واليوم، صارت الحياة اليومية تقدم لنا ما لا يُحصى من المساخر والمهازل، وتحوّلت مجالس المثقفين إلى ما يشبه "المضحكخانة". لكن، ليس على طريقة فولتير وسخريته من "كانديد" الساذج، بل على غرار السخرية من "ميكرو ميغاس"، أي "الصغير والكبير" بحسب اللغة اليونانية، وهي تعني السخرية من مفارقة "الحمقى". فإذا كانت سخرية فولتير تنبع من التضاد بين الإنسان الساذج وزهوه الفارغ، فإن ديدن العويل في أيامنا هذه هو الزهو بما يفعل من "مآثر" مضحكة.
كحمار السوءِ إن أشبعتَه/ ركل الناس وإن جاع نهق
هذا هو عصر غلبة أهل الولاء على أهل الخبرة. وفي نهاية المطاف، يتكشف دائماً أن "ميكرو ميغاس" لا يختلف عن "كانديد"، أو عن جحا، فالواحد منهم لم يقرأ في حياته إلا كتاب تأخير المعرفة، وكتاب نسيان العلوم ودروس نقصان الفهم. ويمكن العثور على نماذج من هؤلاء في كتابٍ قديم، هو "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن قيِّم الجوزية، تلميذ ابن تيمية. وبهذا الاختلاط، تشابه علينا السواد، كما يقول هيغل: "بقرات سود في ليل أسود". وما برح الناس يتدافعون، إما على خُطا أشعب الكندي وتوابعه، أو على غرار الحُطيئة، وجميعهم يرددون: "عندما تتولى القردة سلطان الحكم، فارقص أمامهم كما يرقصون".
أبكي عليكم.