المقاطعة في المغرب وسيناريوهات التعامل مع الأزمة السياسية

31 مايو 2018
+ الخط -
تظهر المعطيات الإعلامية الجديدة، التي ركزت على توجيه الرأي العام لتحميل حكومة العدالة والتنمية مسؤولية اﻷزمة السياسية، أن دوائر الحكم منزعجة من تفاعل المواطنين غير المسبوق مع الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يزيد سوءاً وفساداً يوماً بعد يوم؛ وذلك بسبب حملة المقاطعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لثلاث شركات كبرى ومهيمنة في الماء والحليب والمحروقات، التي توسعت في شهرها الثاني لتشمل مقاطعة الأسماك، ثم الإعلان في غضون هذا الأسبوع عن مقاطعة المهرجان الغنائي "الموازين" الدولي المثير للجدل دائماً، الذي ينظم تحت الرعاية السامية خلال شهر يونيو/ حزيران من كل سنة؛ وهي ثقافة شعبية جديدة بوسائل جديدة بعيدة عن مراقبة السلطة وإجراءاتها الإدارية، وأكثر أمناً من ثقافة الاحتجاج في الشارع التي تحرج التنظيمات الرسمية والتي تواجه بالعنف والاعتقالات.

التضحية بحزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي وحكومته هو الحل المحتمل لخروج الدولة من اﻷزمة السياسية التي خلقتها المقاطعة الخانقة والمحرجة لعلاقة النظام برموزه المستهدفين بالمقاطعة وللخروج منها بأقل الخسائر المحتملة، حتى ﻻ تتحول المقاطعة إلى سلوك شعبي معتاد قد يطاول شيئاً فشيئاً دوائر الحكم نفسها.


لقد أتقنت بالفعل الجهات المعروفة بمناهضتها للمقاطعة والدوائر المتضررة من المقاطعة لعبة تغيير وجهتها وتغيير سياقها وصرف النظر عن أخطر تقرير للجنة استطلاع برلمانية يرأسها حزب العدالة والتنمية حول الفساد في قطاع المحروقات؛ أتقنت اللعبة بمساندتها الشكلية للمقاطعة ودعمها وتبنيها بعد شهر من بدايتها، قصد تحميل حكومة العدالة والتنمية وحدها مسؤولية اﻷزمة السياسة ونتائجها.

لقد توقعنا ونبهنا إلى خلط أوراق المقاطعة، وقلنا إنه لم يأت (أي خلط الأوراق) عبثا وﻻ عشوائيا. لقد جاء بعد تأكيد جميع المراقبين أن مشروع أخنوش السياسي زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي أسسته الدولة في السبعينيات، والذي عولت عليه دوائر الحكم وصرفت عليه أموالا طائلة. وقامت له المساعدة العلنية من العمال والوﻻة في جميع الجهات واﻷقاليم، قد دُمِّر تماما واحترق كتابه "مسار الثقة" احتراقا مهوﻻ، وأن العدالة والتنمية هو الذي خرج نظيفا من حملة المقاطعة وهو المستفيد منها بسقوط منافسه الجديد في الساحة بعد سقوط المنافس الأول حزب "الأصالة والمعاصرة"، مدلل الدولة، كما يقال.

توقعنا بمقتضى قواعد العلاقة العامة في مواجهة اﻷزمات أن دوائر الحكم ــ عكس دوائر الحكومة التي دلت مواقفها على أنها ﻻ تفقه شيئا في علم العلاقة العامة ــ ستستشير مبكرا مراكز العلاقات العامة الكبرى في فرنسا والمتخصصين في العلاقات العامة، لتأتي توصياتها بـ"سيناريوهات" محبوكة، كهدف رئيسي لخلط الأوراق، يشارك فيه الإعلام العمومي والكتاب التابعون والمواقع التابعة والأحزاب؛ وذلك بإخراج رئاسة الحكومة ووزراء العدالة والتنمية من الحياد، وتوريطهم في المقاطعة بإدانة تدبيرهم الحكومي في أسبابها وبواعثها؛ كل ذلك لغاية تهدئة الأوضاع من جهة، ترهيبا وترغيبا، كما جاء في التصريح الحكومي اﻷول بعد شهر من المقاطعة، الذي هدد بسن قانون مواجهة الأخبار الزائفة بمناسبة المقاطعة عكس التصريح الثاني الذي حاول تلطيف الأجواء بعبارات تفيد تفهم الأسباب المؤدية إليها.
ومن جهة أخرى، ليبقى الخيار مفتوحا لمهندسي الخريطة السياسية بين إرجاع حزب الأصالة والمعاصرة إلى الواجهة مرة أخرى، أو الاختيار بين الأحزاب الأخرى وحزب الاستقلال خصوصا، الذي أعلن المعارضة أخيراً واستعداده التحالف مع "ح.أ.م". وهذا اﻷخير اختيار ضعيف وبعيد المنال، ويبقى الاختيار الأقوى هو حكومة تكنوقراط، أو تعديل حكومي يذهب بالرؤوس المستهدفة بتأجيج المقاطعة كمحمد بوسعيد وزير المالية الذي أجج المقاطعة بوصف المنضمين إلى المقاطعة على قبة البرلمان بعبارة قدحية "المداويخ"، وبعده عزيز أخنوش، وزير الفلاحة النافد في الدولة، ومالك شركة أفريقيا للمحروقات الذي تحدى المقاطعين في الأيام الأولى بتصريحات مستفزة وشربه حليب سنترال أمام وسائل الإعلام الرسمية، وذلك في لقاء رسمي لافتتاح المعرض الدولي للفلاحة.

اختبار الحلول المحتملة وردود فعل المواطنين عبر وسائل الإعلام ما زال مستمرا وقائما بكثافة. وإلى حد اﻵن ليس هناك دليل قاطع على احتمال نجاح أي "سيناريو" من "السيناريوهات" المحبوكة إﻻ التوريط المتردد للحكومة باسم الحزب الإسلامي العدالة والتنمية؛ لكنه لم يحقق بعد أهدافه كاملة.

لقد أثبتت وسائل التواصل اﻻجتماعي، و"فيسبوك" خصوصاً، قدرتها على المقاومة، وأثبتت تفوقها على وسائل الإعلام التقليدية وحتى على المواقع الإلكترونية الحاملة لسيناريو تحريف مسار المقاطعة والتشويش عليها.

بالنسبة لدوائر الحكم، العائق اﻷكبر الذي يخضع اﻵن للدراسة والتمحيص والعناية المركزة هو كيف يمكن اختراق هذه الثقافة الجديدة وهذه الوسائل الجديدة في التواصل اﻻجتماعي ﻹبطال مفعولها الجارفة وتأثيرها الفعال في المواطنين.
08387BC5-73AC-4825-8626-9E792861A436
محمد الراجي

أستاذ متقاعد.. حاصل على الدكتوراه في العلاقات العامة وماجستير في علم نفس الطفل، والإجازة في الفلسفة.