المغرب.. وقفة بعد اقتراع 4 سبتمبر

05 أكتوبر 2015

حشد انتخابي ل"العدالة والتنمية" وزعيمه بنكيران في أغادير (أغسطس/2015/الأناضول)

+ الخط -
بدا فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية والجهوية، أخيراً، في المغرب؛ سياسياً في البداية. ثم سرعان ما دفعت به موازين القوى والسياق الثقافي والاجتماعي، وعواملُ أخرى، ليصبح فوزاً عددياً، بلا امتدادات منتجة. 

اكتسح الحزب الإسلامي المدن الكبرى، ذات الثقل الاقتصادي والسياسي، معلناً تحوله إلى رقم أساسي في المعادلات المجتمعية التي تنطوي، عادةً، عليها الانتخابات البلدية، وصوّتت له شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، في رسالة دالةٍ إلى من يهمهم الأمر في المغرب. كان هذا نصف الطريق الذي حاول الحزب اجتيازه بهدوء، لكن النصف الآخر بدا غير سالك، وقد لا تكون مبالغة في القول إن الجميع اقتنع، في لحظةٍ معينة، بأن المغرب غير مستعد للمجازفة بإكمال النصف المتبقي. لهذا، كان لا بد من الاكتفاء بنصر انتخابي، يخطو بالإسلام السياسي المعتدل خطوة أخرى، في اتجاه إدماجه أكثر في النسق السياسي. عوامل كثيرة كانت وراء التخلي عن هذه المجازفة، أبرزها سطوة الدولة العميقة ونفوذها، ومصالحُ القوى المتنفذة، والطبيعة المحافظة للسلطة، وهشاشة النخب الحزبية وثقافتُها السياسية التقليدية، من دون إغفال عوامل أخرى لا تقل أهمية، مثل نظام الاقتراع النسبي باللائحة الذي تم اعتماده في المدن، ولا يسمح بفرز مجالس قوية ومتماسكة قادرة على تحديث الديمقراطية المحلية، ثم التقطيع الانتخابي الذي يعرف اختلالات صارخة فيما يتعلق بعدم التناسب بين عدد الجماعات وعدد السكان، فالأرياف تتوزع على 1282 جماعة، فيما سكانها لا يتجاوزون 45 % من مجموع عدد السكان، في حين أن المدن والحواضر، والتي يناهز عدد سكانها 55 %، تنتظم في 221 جماعة فقط. هذا يعني، بلغة الاجتماع السياسي، أنه، على الرغم من التحولات العميقة في المجتمع المغربي خلال العقود الثلاثة، ما زالت الأرياف تشكل، بالنسبة للسلطة، احتياطياً سياسياً ورمزياً لا يستهان به.

في ضوء ذلك، شكل الاقتراع الخاص برؤساء الجهات الإثنتي عشرة أهم حلقة في التراجع عن إكمال الطريق، وتحقيق نصر سياسي كامل؛ فاز حزب الأصالة والمعاصرة برئاسة خمس جهات، على الرغم من أنه حل ثانياً في الانتخابات الجهوية بـ132 مقعدا، في حين فاز حزب العدالة والتنمية برئاسة جهتين، وهو الذي حل في الصدارة بـ174 مقعداً. وينطوي هذا الاختلال، إلى حد كبير، على رهانات سياسية واجتماعية معبرة، غالباً ستأخذ أبعاداً أخرى، في ضوء الاحتداد المرتقب للصراع بين الجماعات التي يتزعمها الإسلاميون، والجهات التي تتحكم فيها شبكة الأعيان المتنفذين، والتي يبدو أن حزب الأصالة والمعاصرة يتجه نحو وضع يده عليها. هل تقصّدت السلطة هذا الصراع بين هاتين الهيئتين الترابيتين المختلفتين، في أفق إحداث توازن بين النخب والأعيان والفاعلين الآخرين، تؤطره وتوجهه حسابات الصراع الاجتماعي والسياسي وتفاعلاته الجهوية؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يطرح علامة استفهام كبرى، بخصوص الفلسفة التي حكمت مشروع الجهوية المتقدمة في أبعاده المختلفة؟ ألا يمكن أن تتحول هذه الجهوية إلى آلية لإنتاج الريع السياسي وتداوله على مستوى الجهات؟
في البلدان التي تتبنى الديمقراطية، لا تمثل الانتخابات مجرد محطة للتنافس بين برامج ورؤى وأفكار تطرحها الأحزاب، إنها أيضا مناسبة لقياس درجة التدافع الحزبي، وفرز الاصطفافات الاجتماعية، واستشراف آفاق الصراع السياسي. ويشكل الاقتراع المحلي أهم حلقةٍ في هذه العملية، باعتباره تمريناً متعدد الأبعاد، يخوضه المجتمع والنخب والسلطة بغاية تنمية الحس المدني والديمقراطي، والانخراط في الشأن العام والتفاعل بإيجابيةٍ مع ما تفرزه المتغيرات المجتمعية من مشكلاتٍ وإكراهاتٍ متباينة. وفي البلدان التي لم تقطع، نهائياً، مع الاستبداد والفساد وسوء توزيع السلطة والثروة، تعمل السلطة، عبر شبكات نفوذها المختلفة، على الحد من الامتدادات المحتملة للحظة الاقتراع، باستدعائها المخزونَ التقليدي الكامن في بنيات المجتمع، وإعادة إنتاجه بصيغ متعددة، بمعنى العمل على تجنب تحول هذه اللحظة إلى عامل حيوي وفاعل في تغيير بنيات الدولة والمجتمع، ضمن تعاقدات واضحة. وحتى حينما تنتظم الانتخابات في مواعيدها الدورية، وتحوز شهادة النزاهة والشفافية، فذلك لا يعني، بتاتاً، أنها أصبحت من روافد التحديث السياسي، فذلك يحتاج للوقت ونضج النخب والثقة المتبادلة بين الفاعلين ووجود إرادة سياسية حقيقية. ولهذا، عادة ما يلجأ هذا النوع من الأنظمة المتردّدة إلى التدخل لإعادة ترتيب الحقل الحزبي، والتحكم في توازناته، تجنباً لهيمنة حزب معين على الحياة السياسية.
يمكن أن نزعم أن هذا ما حدث فعلاً مع "العدالة والتنمية"، فلا تزال هناك مواقع، داخل السلطة والطبقة السياسية والرأسمال والإعلام والقوى الليبرالية والعلمانية، خائفة من نفوذه المتصاعد. وهنا، يبدو "حرمانه" من الهيمنة على رئاسة الجهات وتعويمُ انتصاره، عبر تحالفات هجينة وغير منطقية، محاولةً من هذه المواقع لفرملة تغلغله داخل النسيج الاجتماعي. ويبدو أن الحزب، باكتفائه برئاسة جهتين، فضّل عدمَ الدخول في مواجهات قد تكلّفه غالياً على المدى البعيد، والعملَ على تعزيز قوته التنظيمية وتنويع حضوره في أوساط الطبقة الوسطى، وتكثيف وجوده على واجهات العمل الأهلي، وذلك كله لتعبيد الطريق وتأمينها نحو الانتخابات التشريعية لــ 2016.