05 نوفمبر 2024
المغرب... دبلوماسية الصدمة قوة النموذج
دخلت بلاد المغرب، في علاقتها مع شركائها الدوليين المهمين، ومع أكبر التكتلات السياسية والاستراتيجية في ما يمكن أن نسميها "دبلوماسية الصدمة"، وهي دبلوماسية ترتبط، في عمقها الوحيد، بالقضية المصيرية بالنسبة للمغاربة، حكومة وشعباً وقصراً، قضية الصحراء المتنازع عليها بينه وبين التنظيم الانفصالي "البوليساريو" المدعوم من الجارة الشرقية، الجزائر.
وقد بدأ الملك محمد السادس، في التعامل بالمثل مع الدول، وتسمية الأشياء بمسمياتها، منذ سنتين تقريباً، فقد أثار خطابه السنوي في ذكرى "المسيرة الخضراء" يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، دهشة واسعة في أوساط التمثيليات الدبلوماسية، وفي أوساط النخبة والشعب المغربيين، على حد سواء. فقد بعث الملك فيه رسالة قوية إلى الولايات المتحدة الأميركية، بخصوص موقف إدارتها من النزاع في الصحراء، وسلط فيه ضوءاً كبيراً على الخزي السقراطي، والذي نسميه عادة التناقض في مواقفها، إذ قال "في الوقت الذي يؤكدون أن المغرب نموذج للتطور الديمقراطي، وبلد فاعل في ضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة، وشريك في محاربة الإرهاب، فإنهم، في المقابل، يتعاملون بنوع من الغموض، مع قضية وحدته الترابية". وهذا ما علق عليه السفير الأميركي الأسبق، إدوارد غابرييل، بأنه موقف "سيتردد صداه في مختلف مراكز القرار في العاصمة واشنطن، مثل البيت الأبيض والكونغرس ووزارة الخارجية".
وقد حدث في العلاقة مع أميركا أن سعت وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، إلى دعم تقرير مناهض للمغرب، في القضية المقدسة عنده، بحيث سعت إلى توسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة المكلفة بتطبيق وقف إطلاق النار في المنطقة "المينورسو"، وهو ما اعتبره المغرب مقدمة لطرد الإدارة المغربية من الأقاليم الجنوبية المتنازع حولها، وبالتالي، إعداد الظروف لفرض الاستقلال عليها، بقوة الأمم المتحدة، فكان الرد أن المغرب دخل في توترٍ مباشر معها، بعد أن قدّمت في مجلس الأمن مشروع قرارٍ، يدعو إلى توسيع صلاحيات "المينورسو" لتشمل مراقبة حقوق الإنسان. وقتها، قرّر أن يوقف مناورات "الأسد الإفريقي"، العسكرية الاستراتيجية في تحالفات أميركا في المنطقة. وقادت خطورة القرار الأميركي المغرب إلى أن يعلن اختلاف وجهات النظر، بعيداً عن الكواليس والسراديب المعتادة. وتم تجاوز الأزمة، وأصبح اللقاء بين الرئيس باراك أوباما والملك محمد السادس مرجعية العلاقات بينهما، خصوصاً لمّا تخطت أميركا ترددها بنفسها، وقرّر أوباما دعم مشاريع تنموية في الصحراء، في إطار قانون مالية الولايات المتحدة لـ2014. واعتبر المغرب موافقة البيت الأبيض على تمويل مشاريع في الأقاليم الجنوبية "منعطفا مهما في مسار قضية الصحراء".
وبشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، الشريك الأكبر والأهم لبلاد المغرب في منطقة الأورومتوسطية، فإنها عرفت بدورها علاجاً بالصدمة، سواء على مستوى العلاقات الثنائية بين الدول أو في العلاقة مع التكتل برمته. وما زالت آثار القرار المغربي تعليق الاتصال مع الاتحاد الأوروبي تتفاعل في أروقة الدبلوماسية الاتحادية الأوروبية، ووسط العواصم المؤثرة. وتعود فصول النزاع إلى قرار المحكمة الأوروبية، وقد كان المغرب اتخذ قراره، يوم 25 فبراير/ شباط 2016، تعليق الاتصالات مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي رسميا، بعد أن كانت المحكمة الأوروبية قد ألغت اتفاقًا للتجارة، يشمل أقاليم الصحراء، استجابة مع دعواتٍ قضائية، رفعتها جبهة البوليساريو الانفصالية. وفي رده الإيجابي، قرّر الاتحاد الأوروبي استئناف قرار المحكمة الأوروبية إلغاء اتفاق التجارة مع المغرب الذي استجاب بدوره للتعامل المتفهم واستعاد علاقاته.
وكانت دول أوروبية قوية، كفرنسا، عاشت مع المغرب أطواراً مشابهة، في ما يخص دفاعه عن السيادة، لما قرّر تعليق الاتفاق القضائي والتعاون الأمني مع باريس، بعد فصول من التوتر، قادتها الوزيرة المستقيلة كريستيان طوبيرا، وصلت إلى حد استدعاء شرطة باريس رئيس المخابرات المغربية، وتجاوز حدود اللياقة في التعامل مع جنرال مغربي كان مكلفاً بالمنطقة الجنوبية وسلامتها.
أحدث فصول العلاج بالصدمة ما وقع بين المغرب والأمين العام للأمم المتحدة الذي يعيش آخر فصول ولايته، الكوري بان كي مون، وهو ما اعتبره المحللون أسوأ أسبوع في تاريخ العلاقة بين أمين عام للأمم المتحدة والمغرب في تاريخ النزاع منذ 1991. وقد أثار كي مون غضب المغرب، عندما اعتبره دولة "احتلال"، وهو ما اعتبره المغاربة تجاوزاً لدوره الحيادي، وتمريناً للزّج بالأمم المتحدة في أتون موقفٍ غير موقف الحياد المطلوب فيها، فخرج ملايين المغاربة للتظاهر، ثم قرّر المغرب تعليق مساهمته في "المينورسو"، وتعليق الاتصال ببان كي مون، الأمر الذي وضع زياره الأخير المنطقة، قبل الموعد السنوي كل إبريل، لإعداد تقرير حول الوضع في الصحراء، معلقة وغير ذات موضوع. والواضح أن المغرب كان يتوقع موقفاً لا يختلف عن مواقف واشنطن وبروكسيل، عندما رفع درجة النِّدِّية إلى أقصى ما يمكن أن يرفعها نظام عربي أو مغاربي أو عالمثالثي، وانتقد العاصمتين معا في العلاقة بقضيته المركزية. وهو ما جعل الإعلام المغربي (والنخبة والشعب عموماً) يرى في خيبة أمل الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، التي عبر عنها "لفشل مجلس الأمن الدولي في اتخاذ موقفٍ صلبٍ بصدد خلاف المنظمة الدولية مع المغرب" انتصاراً له، وللدبلوماسية الهجومية التي تبناها أخيراً.
والحال أن أعضاء مجلس الأمن الـ 15 ناقشوا، في اجتماع مغلق، الأسبوع الماضي، تصاعد الخلاف بين المنظمة الدولية والحكومة المغربية، بعد إصدار الرباط قرارها تقليص عدد العاملين في بعثة "مينورسو"، على حد ما ذكرت وسائل الإعلام، وقرّروا التعامل فردياً مع المغرب الذي لا يملك قوة اقتصادية هائلة، ولا ثروات طبيعية، ولو في حدها الأدنى، ولا ترسانة أسلحة وجيوشاً جرارة. ولهذا، يجب أن نطرح السوال: لماذا استطاع أن يرفع من سقف النديّة في العلاقات مع أكبر العواصم والتكتلات، في حين ما زالت قوى شرق أوسطية كثيرة، شرقاً وغرباً، متردّده في الدفاع عن ترابها ووحدته؟
ويبدو أن المغرب، هنا، حالة مدرسية في تاريخ معاصر ما زال يتشكل، فهو نجح في تدبير الربيع العربي، بكل عنفه وعنفوانه، في الداخل والخارج، وساير شعبه في مطالبه الديموقراطية، والتحرّرية، وجنَّب البلاد "الاستحالة السياسية" التي وصلت إليها الشعوب الأخرى، ما اضطرّها إلى استعمال العنف حلاً لتناقضاتها، كما أنه يدير العلاقة مع جواره بالتوجه السلمي (ليبيا مثلاً) أو بمنطق التشارك (حالة مالي)، وهو ما يحعله شريكاً فعلياً في السلام النابع عن التقدير الديموقراطي.
وعلى الرغم من تأخر نظام الحكم في تفعيل الربط بين الدفاع عن القضايا الوطنية والديموقراطية، فقد كانت النخبة وتيارات واسعة في المجتمع واعيةً، منذ منتصف السبعينيات، ضرورة الربط بينهما ربطاً جدلياً، يعطي للمغرب صوتاً ديموقراطياً مسموعاً في قضيته الوطنية. وقد التحق نظام الحكم في العهد الجديد بهذه المقاربة، وجعلها "عقيدة دبلوماسية"، أشار إليها الملك محمد السادس في انتقاده أميركا.
وحقق المغرب لنفسه نموذجاً في الحياة المدنية الحالية، تجمع بين التعدّدية المتعارف عليها دولياً، الثوابت التي تعلنها دولة مسلمة، والانفتاح الحضاري بما يقتضيه من انتماء إلى الأفق الكوني حقوقياً ونسائياً ولغوياً، وأصبح يملك بذلك "قوة النموذج" المقترح على شعوب الدائرة المتوسطية، وبعيداً في آسيا نفسها، كلما طرح السؤال بشأن حدود التعايش بين السلام والديموقراطية من جهة وبين الانتماء التاريخي والانتماء الكوني من جهة ثانية. ولعل هذين العنصران معاً، النأي بالبلاد عن الاستحالة السياسية في الديموقراطية وقوة النموذج، يتخذان قوة أكبر، عندما نستحضر أنه شريك في تدبير الحقول الدينية في إفريقيا وأوروبا (التعاون مع فرنسا وبلجيكا ومع دول الساحل جنوب الصحراء في المجال الديني ومحاربة التطرف وتعميم النموذج المغربي)، وفي التعاون الأمني المتقدم مع المحيط الأورومتوسطي، على الرغم من الضعف في التنسيق المغاربي.
ولا شك أن الحرص على حماية الدولة الوطنية يستفيد من عودة البعد الجيو-استراتيجي الذي غاب منذ نهاية الحرب الباردة وانتصار الأحادية القطبية، وهو ما قد يفسح مجالاً لرأيٍ من نوع ودرجة أخريين، من الخبراء والمتخصين، غير أن ما سبق أن أعطى للمغرب فرصةً لأن يُسمِع صوته لشركائه، ويثير الانتباه إلى قضاياه، ولو باستعمال دبلوماسية الصدمة أحياناً.
وقد بدأ الملك محمد السادس، في التعامل بالمثل مع الدول، وتسمية الأشياء بمسمياتها، منذ سنتين تقريباً، فقد أثار خطابه السنوي في ذكرى "المسيرة الخضراء" يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، دهشة واسعة في أوساط التمثيليات الدبلوماسية، وفي أوساط النخبة والشعب المغربيين، على حد سواء. فقد بعث الملك فيه رسالة قوية إلى الولايات المتحدة الأميركية، بخصوص موقف إدارتها من النزاع في الصحراء، وسلط فيه ضوءاً كبيراً على الخزي السقراطي، والذي نسميه عادة التناقض في مواقفها، إذ قال "في الوقت الذي يؤكدون أن المغرب نموذج للتطور الديمقراطي، وبلد فاعل في ضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة، وشريك في محاربة الإرهاب، فإنهم، في المقابل، يتعاملون بنوع من الغموض، مع قضية وحدته الترابية". وهذا ما علق عليه السفير الأميركي الأسبق، إدوارد غابرييل، بأنه موقف "سيتردد صداه في مختلف مراكز القرار في العاصمة واشنطن، مثل البيت الأبيض والكونغرس ووزارة الخارجية".
وقد حدث في العلاقة مع أميركا أن سعت وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، إلى دعم تقرير مناهض للمغرب، في القضية المقدسة عنده، بحيث سعت إلى توسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة المكلفة بتطبيق وقف إطلاق النار في المنطقة "المينورسو"، وهو ما اعتبره المغرب مقدمة لطرد الإدارة المغربية من الأقاليم الجنوبية المتنازع حولها، وبالتالي، إعداد الظروف لفرض الاستقلال عليها، بقوة الأمم المتحدة، فكان الرد أن المغرب دخل في توترٍ مباشر معها، بعد أن قدّمت في مجلس الأمن مشروع قرارٍ، يدعو إلى توسيع صلاحيات "المينورسو" لتشمل مراقبة حقوق الإنسان. وقتها، قرّر أن يوقف مناورات "الأسد الإفريقي"، العسكرية الاستراتيجية في تحالفات أميركا في المنطقة. وقادت خطورة القرار الأميركي المغرب إلى أن يعلن اختلاف وجهات النظر، بعيداً عن الكواليس والسراديب المعتادة. وتم تجاوز الأزمة، وأصبح اللقاء بين الرئيس باراك أوباما والملك محمد السادس مرجعية العلاقات بينهما، خصوصاً لمّا تخطت أميركا ترددها بنفسها، وقرّر أوباما دعم مشاريع تنموية في الصحراء، في إطار قانون مالية الولايات المتحدة لـ2014. واعتبر المغرب موافقة البيت الأبيض على تمويل مشاريع في الأقاليم الجنوبية "منعطفا مهما في مسار قضية الصحراء".
وبشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، الشريك الأكبر والأهم لبلاد المغرب في منطقة الأورومتوسطية، فإنها عرفت بدورها علاجاً بالصدمة، سواء على مستوى العلاقات الثنائية بين الدول أو في العلاقة مع التكتل برمته. وما زالت آثار القرار المغربي تعليق الاتصال مع الاتحاد الأوروبي تتفاعل في أروقة الدبلوماسية الاتحادية الأوروبية، ووسط العواصم المؤثرة. وتعود فصول النزاع إلى قرار المحكمة الأوروبية، وقد كان المغرب اتخذ قراره، يوم 25 فبراير/ شباط 2016، تعليق الاتصالات مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي رسميا، بعد أن كانت المحكمة الأوروبية قد ألغت اتفاقًا للتجارة، يشمل أقاليم الصحراء، استجابة مع دعواتٍ قضائية، رفعتها جبهة البوليساريو الانفصالية. وفي رده الإيجابي، قرّر الاتحاد الأوروبي استئناف قرار المحكمة الأوروبية إلغاء اتفاق التجارة مع المغرب الذي استجاب بدوره للتعامل المتفهم واستعاد علاقاته.
وكانت دول أوروبية قوية، كفرنسا، عاشت مع المغرب أطواراً مشابهة، في ما يخص دفاعه عن السيادة، لما قرّر تعليق الاتفاق القضائي والتعاون الأمني مع باريس، بعد فصول من التوتر، قادتها الوزيرة المستقيلة كريستيان طوبيرا، وصلت إلى حد استدعاء شرطة باريس رئيس المخابرات المغربية، وتجاوز حدود اللياقة في التعامل مع جنرال مغربي كان مكلفاً بالمنطقة الجنوبية وسلامتها.
أحدث فصول العلاج بالصدمة ما وقع بين المغرب والأمين العام للأمم المتحدة الذي يعيش آخر فصول ولايته، الكوري بان كي مون، وهو ما اعتبره المحللون أسوأ أسبوع في تاريخ العلاقة بين أمين عام للأمم المتحدة والمغرب في تاريخ النزاع منذ 1991. وقد أثار كي مون غضب المغرب، عندما اعتبره دولة "احتلال"، وهو ما اعتبره المغاربة تجاوزاً لدوره الحيادي، وتمريناً للزّج بالأمم المتحدة في أتون موقفٍ غير موقف الحياد المطلوب فيها، فخرج ملايين المغاربة للتظاهر، ثم قرّر المغرب تعليق مساهمته في "المينورسو"، وتعليق الاتصال ببان كي مون، الأمر الذي وضع زياره الأخير المنطقة، قبل الموعد السنوي كل إبريل، لإعداد تقرير حول الوضع في الصحراء، معلقة وغير ذات موضوع. والواضح أن المغرب كان يتوقع موقفاً لا يختلف عن مواقف واشنطن وبروكسيل، عندما رفع درجة النِّدِّية إلى أقصى ما يمكن أن يرفعها نظام عربي أو مغاربي أو عالمثالثي، وانتقد العاصمتين معا في العلاقة بقضيته المركزية. وهو ما جعل الإعلام المغربي (والنخبة والشعب عموماً) يرى في خيبة أمل الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، التي عبر عنها "لفشل مجلس الأمن الدولي في اتخاذ موقفٍ صلبٍ بصدد خلاف المنظمة الدولية مع المغرب" انتصاراً له، وللدبلوماسية الهجومية التي تبناها أخيراً.
والحال أن أعضاء مجلس الأمن الـ 15 ناقشوا، في اجتماع مغلق، الأسبوع الماضي، تصاعد الخلاف بين المنظمة الدولية والحكومة المغربية، بعد إصدار الرباط قرارها تقليص عدد العاملين في بعثة "مينورسو"، على حد ما ذكرت وسائل الإعلام، وقرّروا التعامل فردياً مع المغرب الذي لا يملك قوة اقتصادية هائلة، ولا ثروات طبيعية، ولو في حدها الأدنى، ولا ترسانة أسلحة وجيوشاً جرارة. ولهذا، يجب أن نطرح السوال: لماذا استطاع أن يرفع من سقف النديّة في العلاقات مع أكبر العواصم والتكتلات، في حين ما زالت قوى شرق أوسطية كثيرة، شرقاً وغرباً، متردّده في الدفاع عن ترابها ووحدته؟
ويبدو أن المغرب، هنا، حالة مدرسية في تاريخ معاصر ما زال يتشكل، فهو نجح في تدبير الربيع العربي، بكل عنفه وعنفوانه، في الداخل والخارج، وساير شعبه في مطالبه الديموقراطية، والتحرّرية، وجنَّب البلاد "الاستحالة السياسية" التي وصلت إليها الشعوب الأخرى، ما اضطرّها إلى استعمال العنف حلاً لتناقضاتها، كما أنه يدير العلاقة مع جواره بالتوجه السلمي (ليبيا مثلاً) أو بمنطق التشارك (حالة مالي)، وهو ما يحعله شريكاً فعلياً في السلام النابع عن التقدير الديموقراطي.
وعلى الرغم من تأخر نظام الحكم في تفعيل الربط بين الدفاع عن القضايا الوطنية والديموقراطية، فقد كانت النخبة وتيارات واسعة في المجتمع واعيةً، منذ منتصف السبعينيات، ضرورة الربط بينهما ربطاً جدلياً، يعطي للمغرب صوتاً ديموقراطياً مسموعاً في قضيته الوطنية. وقد التحق نظام الحكم في العهد الجديد بهذه المقاربة، وجعلها "عقيدة دبلوماسية"، أشار إليها الملك محمد السادس في انتقاده أميركا.
وحقق المغرب لنفسه نموذجاً في الحياة المدنية الحالية، تجمع بين التعدّدية المتعارف عليها دولياً، الثوابت التي تعلنها دولة مسلمة، والانفتاح الحضاري بما يقتضيه من انتماء إلى الأفق الكوني حقوقياً ونسائياً ولغوياً، وأصبح يملك بذلك "قوة النموذج" المقترح على شعوب الدائرة المتوسطية، وبعيداً في آسيا نفسها، كلما طرح السؤال بشأن حدود التعايش بين السلام والديموقراطية من جهة وبين الانتماء التاريخي والانتماء الكوني من جهة ثانية. ولعل هذين العنصران معاً، النأي بالبلاد عن الاستحالة السياسية في الديموقراطية وقوة النموذج، يتخذان قوة أكبر، عندما نستحضر أنه شريك في تدبير الحقول الدينية في إفريقيا وأوروبا (التعاون مع فرنسا وبلجيكا ومع دول الساحل جنوب الصحراء في المجال الديني ومحاربة التطرف وتعميم النموذج المغربي)، وفي التعاون الأمني المتقدم مع المحيط الأورومتوسطي، على الرغم من الضعف في التنسيق المغاربي.
ولا شك أن الحرص على حماية الدولة الوطنية يستفيد من عودة البعد الجيو-استراتيجي الذي غاب منذ نهاية الحرب الباردة وانتصار الأحادية القطبية، وهو ما قد يفسح مجالاً لرأيٍ من نوع ودرجة أخريين، من الخبراء والمتخصين، غير أن ما سبق أن أعطى للمغرب فرصةً لأن يُسمِع صوته لشركائه، ويثير الانتباه إلى قضاياه، ولو باستعمال دبلوماسية الصدمة أحياناً.