المغرب بين تناوُبَـيْن

05 ديسمبر 2014

محمد السادس وعبد الإله بنكيران (26يوليو/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

مرّت، في الأسبوع الماضي، ثلاث سنوات على تعيين الملك محمد السادس، عبد الإله بنكيران رئيساً للحكومة المغربية، تعيينٌ بَصَمَ على تدشين المغرب السياسي التناوب الثاني، بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة على حدث تنصيب الملك الراحل، الحسن الثاني، عبد الرحمن اليوسفي، المُعارض السابق والزعيم الاشتراكي، وزيراً أول، في ما اصطلحت على تسميته البلاغة السياسية السائدة حكومة التناوب التوافقي.

منذ تحمَّل جزءٌ من الإسلاميين المغاربة مسؤولية تدبير الشأن العام، ظلت المُقارنة بين حُكومتي التناوبين، الأول والثاني، تبدو مُغرية وغير قابلة للمقاومة. ووراءها، كثيراً ما تنتصب مقارنات بين الرّجُلين؛ بين اليوسفي وبنكيران، بين الوزير الأول ورئيس الحكومة، بين الأسلوبين والمزاجيْن. والعادة أن المقارنات تنبني على السّهولة والاختزال، ولأننا لا نحفل كثيراً بالمرجعيات المتفاوتة والسياقات المُختلفة، فالغالب أنها ظالمةٌ في النتيجة.   

يَلزمنا وقت كثير لمقارنة نتائج التجربتين الحكوميتين. لا أحد يعرف ما إذا كانت تجربة بنكيران ستصل إلى مستوى حصيلة حكومة اليوسفي التي قادت إصلاحاً جبّاراً لقطاع عام على حافة الإفلاس، وقلّصت، إلى أبعد الحدود، الدين الخارجي، وأخرجت البلاد من نزيف ما كان قد سمّاه الملك الرّاحل، في نقدٍ ذاتي قاسٍ، "السكتة القلبية". ولا أحد يعرف، في الشّق السياسي للموضوع، ما إذا كان التناوب الثاني سيؤول، كسابقه الأول، إلى مُجرد حنينٍ غامض تجاه فرصةٍ ضائعة للتحوّل الديمقراطي.

جاء اليوسفي إلى الوزارة الأولى، وهو يتلمّسُ خُطواته فوق ألغام التسويات الصّعبة وأنصاف الحلول وهشاشة التوافقات، لكن بنكيران وصل إلى رئاسة الحكومة محمولاً على أكتاف دستور جعل الحكومة رديفاً للسلطة التنفيذية، ومُتكئاً على أكبر فريق نيابي في تاريخ البرلمان، ومُنتشياً بحرارة الربيع العربي، ومُستنداً على حالة سياسية جديدة، صنعتها هبّة الشباب المغربي، قبل أن تُغيّر الرِياح اتجاهها، بعد نجاح الثورة المُضادة في مصر.

في لحظة التناوب الأول، كانت معالم الأزمة التنظيمية التي يعيشها حزب الوزير الأول، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بادية للعيّان، وكانت الفكرة "الاشتراكية" قد أصبحت مُحاطة بأسئلة وشكوك كثيرة، في حين دخل "العدالة والتنمية"، حزب رئيس الحكومة، غمار التناوب الثاني في كامل لياقته التنظيمية، وفي زمن كانت فكرة "الإسلام السياسي" قد استعادت جاذبية كثيرة بعد أحداث 2011.

كان اليوسفي مُدجّجاً بكتيبة من الأطر (الكوادر) والنّخب "الاتحادية "التي تجمع بين الالتزام السياسي والكفاءة التقنية العُليا، في حين لم يتوفر لبنكيران ولحزبه ترف الاختيار الواسع بين الأطر المرشحة الاستوزار. أراد اليوسفي أن ينتقل من زمن التوافق الى لحظة الديمقراطية، ويُصرّ بنكيران على أن يعود من لحظة الديمقراطية الى زمن التوافق. كان اليوسفي يريد أن يصنع مساحة سياسية أوسع من رُقعة الدستور، لكن بنكيران يُصرّ على أن يُقلّص إرادياً ما يمنحه الدستور الجديد من هامشٍ للحركة بحساباتِ السياسة. كان اليوسفي يتهم جيوب مقاومة الإصلاح بعرقلة عمل حُكومته، وهو ما يعيده بنكيران، مُتحدثاً بنوعٍ من المجاز "النّافذ" عن "العفاريت والتماسيح".

يبدو بنكيران في كثيرٍ من حالاته يُعيدُ، بإصرارّ عجيبٍ، أخطاء اليوسفي، عندما يُبالغُ في البحث عن الثقة مع المؤسسة الملكية، لكنه، في حالات أخرى، يبدو، بذكاءٍ لافتٍ، حريصاً على عدم السّقوط في أخطاء الزعيم الاشتراكي؛ يفعلُ ذلك عندما يُوازي بين تدبير الحكومة والاهتمام بالحزب، أو عندما يُدبر استراتيجية "الأصوات المتعددة" داخل تنظيمه السياسي، إذ يذكّرنا حُضور "المُزعجين والمُشاكسين" الكثيرين داخل المشهد الحزبي لـ"العدالة والتنمية" بالمُخالفة بضيق صدر اليوسفي تجاه مُنتقديه من داخل البيت الاشتراكي.

الاختلافات والتشابهات لا بُد أن تعود كذلك لاختلاف الرّجُلين في المسارات، وفي الطبيعة والشخصية؛ بين المُقاوم، القائد اليساري، معارض الحسن الثاني والحقوقي البارز، وبين ابن جيل الاستقلال الذي قاد الإسلاميين إلى الإدماج والشرعية، بين كاريزما الصّمت وبهاءِ الحضور المُعتمد على الاقتصاد في اللغة وقوة الخُطب المنطلقة من نصوص "عَالِمةٍ" مكتوبة بحرص محامٍ متمرسٍ، وبين أسلوب آخر يعتمد حُضوراً أكثر صداميةٍ، ويتلمّس حسّاً تواصلياً فطرياً ولغةً شعبيةً نافذةً.

مرّ التناوب الأول سريعاً، لتعبر البلاد إلى صحراء الخروج عن المنهجية الديمقراطية، عندما تم تعيين وزير أول غير منتمٍ (أو تكنوقراطي، بالتعبير الغالب في معجم السياسة المغربي) العام 2002، تاركة على الهامش ما تبقى من حزبٍ كبيرٍ، قدّم من أطرافِ جسده المُنهك قرابين غاليةً، فداءَ حملٍ "كاذبٍ" بالتغيير!

في المغرب، لا نعرف اليوم، تماماً، إلى أين سيمضي التناوب الثاني؟ ولا أية قرابين سيتطلّبها هذا الانتقال الذي لا يريد أن ينتهي! 

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي