12 اغسطس 2018
المغرب إلى أفريقيا مع موت الاتحاد المغاربي
شكلت عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي حدثًا استثنائيًا في القارة السمراء، في القمة الـ28 للاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، وكان ملف هذه العودة أبرز القضايا المطروحة في القمة. ولعب الرئيس الجديد للاتحاد، الرئيس الغيني ألفا كوندي، دورًا محوريًا فيها، وجاءت عودةً إلى حضن الاتحاد الأفريقي بعد قطيعة دامت ثلاثاً وثلاثين سنة، بعد أن "كانت ظروف خاصة" فرضت على المغرب الانسحاب من منظمة الوحدة الأفريقية التي كانت قائمة قبل الإعلان عن قيام الاتحاد الأفريقي.
ففي عام 1984، اعترفت منظمة الوحدة الأفريقية بـ"الجمهورية الصحراوية"، فقرر المغرب الانسحاب، وقال عاهل المغرب الراحل الحسن الثاني آنذاك: إنّه كان "من المؤلم أن يتقبل الشعب المغربي الاعتراف بدولة وهمية". والغرض من الدولة الوهمية هذه هو المسّ بالوحدة الترابية للمغرب، وتبرير الطموحات الإقليمية للجزائر الراغبة في أن يكون لها منفذ على المحيط الأطلسي، غير أنها صارت مشروعاً ميتاً في قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا أخيرا.
لم تكن عودة المغرب إلى أفريقيا مفاجئة، فقد جاءت في ظل التراجع الكبير من الدول الأفريقية المعترفة بـ"الجمهورية الصحراوية"، إذ أخفقت الأخيرة في أن تصبح عضوا في أي منظمة إقليمية أو دولية، بدءا بجامعة الدول العربية انتهاء بالأمم المتحدة. واللافت في العودة المغربية هو خطاب العاهل المغربي، محمد السادس، أمام أعضاء الاتحاد الأفريقي في أعقاب الانضمام، حيث أكد أن المغرب ظلّ مؤمناً بأن قوته ينبغي أن تستمد من اندماجه في محيطه المغاربي. ونبّه، في الوقت نفسه، إلى أن شعلة الاتحاد المغاربي انطفأت، وصارت معه المنطقة الأقلّ اندماجاً في القارة الأفريقية، إن لم يكن في العالم أجمع، بفعل غياب الإيمان بمصير مشترك، وضعف المبادلات التجارية بين أطرافه.
نموذج مبتكر للتنمية في أفريقيا
يؤكد المحللون المغاربة أن بلادهم تدعو إلى تفعيل الهجرة الاقتصادية نحو الجنوب، كما تؤكد أن نهضة القارة ومقاومة الإرهاب في حاجة إلى تحالف أفريقي مغاربي. فقد أعلنت الرباط دعمها، بشكل كامل، للخيارات الاستراتيجية الداعمة لشراكة جنوب جنوب، وأكّدت انفتاحها على جذورها الأفريقية، واستعدادها للمساهمة في إعادة البناء والاستقرار الاقتصادي والنهوض الاجتماعي في بلدان القارة. وأكّدت الزيارات الأفريقية المكثفة للعاهل المغربي الملك محمد السادس، خلال السنوات الثلاث الأخيرة لعدد من البلدان الأفريقية (2013-2014-2015) هذا الالتزام، والتوجه الذي يؤسّس لتحرّك فعّال للمملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وكان قد طرح نموذجا مبتكرا وأصيلا للتنمية في أفريقيا، يقطع مع النماذج والتصورات التي كانت تأتي، منذ ستينيات القرن الماضي، من خارج القارة، لتعيد إنتاج مفاهيم تنموية ماضوية، أثبتت عجزها في مسايرة التطور الذي تشهده القارة السمراء منذ بداية الألفية الجديدة.
أوّل العناصر التي يقوم عليها هذا النموذج التنموي أن تتخلص أفريقيا من رواسب الماضي، وأن تستعيد ثقتها في إمكاناتها ومواردها، وفي ما تزخر به من كفاءات بشرية متوثبة. ومن هنا، شدّد العاهل المغربي على أن أفريقيا "لم تعد قارة مستعمرة"، بل قارة حيّة، ليست في حاجة لمساعدات إنسانية، بقدر حاجتها لشراكاتٍ ذات نفع متبادل ولمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية، فإذا كان القرن الماضي، كما يقول العاهل المغربي، بمنزلة قرن الانعتاق من الاستعمار للدول الأفريقية، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء، ومواجهة تحدّياتٍ عديدة تهدّد الاستقرار السياسي في أفريقيا، وتعيق النمو الاقتصادي والاجتماعي فيها، من خلال التعاون والتضامن بين الشعوب الأفريقية، واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية.
ولا يعني هذا أن التوجّه الأفريقي، مثل ما يروّج بعضهم، جاء بسبب تدهور علاقات الرباط مع شركائها التقليديين، وخصوصا أوروبا، أو بسبب فشل سياسة التواصل بين بلدان المغرب العربي، بل يأتي هذا الخيار الاستراتيجي في صلب اهتمام السيادة المغربية بتوسيع آفاق التواصل الاقتصادي والدبلوماسي بشكل أوسع. ومبادرات العاهل المغربي الأفريقية، حتى ولو عادت بالنفع على المملكة، فإن مكاسبها على الصعيد الأفريقي أكثر وأكبر، فسياسة الهجرة نحو الجنوب التي ينتهجها المغرب تشكل مصدر إلهام ونموذجا بالنسبة إلى القارة الأفريقية. وليس للمبادرات المغربية في هذا المجال هدف محلي فحسب، وإنما لها أيضا بعد قاري ودولي. ولم تبق هذه المبادرات مجرّد شعارات ترفع في المناسبات العامة، بل تجسّدت على أرض الواقع، وإن كان الموقف المغربي من الأزمة في مالي، والدور الذي لعبته الرباط في إنهاء الحرب هناك يُعدّ موقفا استثنائيا عند بعضهم، فإن الأرقام الرسمية خير دليل على أن السياسة المغربية تجاه أفريقيا سياسة أفعال لا فقط سياسة أقوال.
ولم تقتصر المساعدات المغربية على التنمية وإقامة مدارس ومستشفيات في عدة بلدان أفريقية، واستقبال المغرب 12 ألف طالب أفريقي يتابعون دراساتهم في الجامعات، بل تعدت ذلك إلى كلّ ما له علاقة بنشر التسامح والاعتدال وتعريف الأفارقة بالدين الإسلامي الصحيح، بعيدًا عن العنف والتطرّف، فلم يتردّد المغرب في إنشاء معهد لتأهيل رجال الدين وتثقيفهم، من أجل أن يكون أئمة المساجد في أفريقيا دعاة سلام ومحبة، بعيدين عن كلّ ما له علاقة بالإرهاب. وأعلنت الرباط أخيرا عن اتفاقية مع باماكو لتأهيل 500 إمام مالي، في مبادرةٍ من المتوقّع أن ينسج على منوالها أيضا مع غينيا.
وعرفت العلاقات الاقتصادية المغربية الأفريقية تطورات كبيرة ومتسارعة في السنوات الأخيرة. وأصبح المغرب اليوم ثاني بلد مستثمر أفريقي في أفريقيا، بقيمة استثمارات تتجاوز الـ400 مليون دولار، بحسب بياناتٍ رسمية. والتوجه المستقبلي للرباط هو توسيع هذا الحضور الاقتصادي، ليشمل دولا أخرى، ويشجّع قطاعات جديدة واعدة للاستثمار في البلدان الأفريقية. وترسيخا لهذه السياسة، حصل المغرب على كامل العضوية في اتحاد المجالس الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسات المماثلة في أفريقيا، بهدف العمل مع بقية أعضاء الاتحاد على إطلاق دينامية لتجسيد الانخراط الفعلي في هذه المجالس في مسار الاندماج، والعمل من أجل تحقيق التقارب بين الدول الأفريقية، لتشكيل هوية اقتصادية واجتماعية منسجمة وفعالة، طبقا لإعلان واغادوغو. ومن ثمّة، من الأولى أن يكون المغرب ضمن الفاعلين الأساسيين داخل القارة التي ينتمي إليها، وتنتمي إليه، بدلاً من أن يظل في تكتل إقليمي هياكله القائمة عاجزة، وغير مندمج عالميًا.
موت الاتحاد المغاربي
وفي الذكرى الثامنة والعشرين لقيام الاتحاد المغاربي الذي يضم المغرب وتونس وموريتانيا وليبيا والجزائر، يوم 17 فبراير/ شباط الجاري، يتم استدعاء موت هذا الاتحاد للأسباب التالية:
أولاً: لا يتعلق المأزق الناتج عن وحدة المغرب العربي، على الأرجح، بالتركيب الديني أو الثقافي الخاص بالعروبة، بل يتّصل بمشكلة النخب السياسية الحاكمة التي أصبح همها الأكبر الاندراج في قنوات النظام الدولي الأميركي بانضباط محكم للاستمرار في الحكم. وفي هذا السياق، لم تكن هذه النخب تشعر بأي نوع من الانتماء إلى العروبة السياسية، إسلامية أم علمانية. ولم تتمكن معظم الطبقات والفئات التي ظهرت في الجزء الثاني من القرن العشرين لتحكم المغرب العربي باسم شرعية قيادة حركة التحرّر، من كسب الحد الأدنى من الشرعية الديمقراطية حيال شعوبها، وذلك لفقدان الإنجازات الحقيقية في إرساء الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون، بالتلازم مع بناء المجتمع المدني الحديث. ولم تتحقق كل هذه المسائل، بل حصل عكس ذلك، أي بناء الدولة المتسلطة، وهبوب رياح القوميات القطرية المصطنعة التي باتت تشكل "جداراً حديدياً" يفصل بين بلدان المغرب العربي.
ثانيًا: الإشكاليات التي برزت على الحدود بين الدول المغاربية المعنية (الجزائر والمغرب) خلال المرحلة الماضية، سواء من حيث تحديد الحدود وحل النزاعات الجغرافية، إذ تدخل هذه الإشكاليات في نطاق استكمال بناء "الدولة الوطنية" بمفهومها القطري، أو من حيث الحيلولة دون تحول هذه الحدود إلى معبر للقوى المعارضة، يستخدمها نظام معين في صراعه السياسي مع نظام آخر، كما الحال على الحدود الليبية ـ التونسية، والحدود الجزائرية ـ التونسية، والحدود الجزائرية ـ المغربية، على سبيل المثال.
ثالثًا: حرب الصحراء الغربية القائمة منذ العام 1975، وأثرها المباشر في احتدام صراع المحاور الإقليمية بين المغرب والجزائر، والموقع الذي احتلته في استراتيجية التطويق والمحاصرة لدى كل من النظامين.
رابعًا: التناقضات الإيديولوجية والسياسية العميقة التي كانت تفصل بين أنظمة المغرب، بعضها عن بعض، من جرّاء انحياز كل نظام إلى خيارات اقتصادية ـ اجتماعية، وارتباطات دولية محدّدة. فضلاً عن ذلك، كانت التصورات المستقبلية لبناء هذا المشروع الإقليمي المغاربي، مفقودة أو غائبة، في الأغلب، أو مؤجلة إلى مرحلة تتوفر فيها حلول معينة لهذه المعضلات القائمة آنفة الذكر. وإذا كان من نافلة القول إن مسار البناء السياسي لأنظمة المغرب العربي انصب، بشكل رئيسي، على بناء الدولة القطرية، في تناقض جذري مع خط البناء القومي والوحدة العربية، والتحرّر من السيطرة الامبريالية، فإنّه من المفيد التذكير بالعوامل المحورية التي دفعت أنظمة المغرب العربي إلى التوجه نحو بناء هذا التكتل الإقليمي (اتحاد المغرب العربي)، علماً أن الاتحاد العربي الشامل لم يتحقق، والاتحادات الإقليمية لم تنجح في الماضي.
خامسًا: إخفاق التجربة الوحدوية لبلدان المغرب العربي يعود أيضًا إلى عجز هذا التكتل عن تحقيق التكامل الاقتصادي والاندماج بين الدول الخمس المكونة له، إذ لم تتجاوز العلاقات التجارية البينية 3%، في حين أن التبادل التجاري بين هذه البلدان المغاربية والسوق الأوروبية بلغ 70% من الصادرات المغاربية إلى أوروبا، و70% من الواردات منها، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وأمام إخفاق مؤسسات اتحاد المغرب العربي، لأسباب عديدة ومتنوعة، منها الخلافات السياسية والإيديولوجية والجيواقتصادية بين مختلف مكونات المغرب العربي، والتعثر في إرساء دعائم حرية الرأي والتعبير، الأمر الذي جعل أغلبية المجتمعات المغاربية تعلن إحجامها عن المشاركة في تدبير الشأن العام، وضعف الإرادة السياسية لدى النخب الحاكمة لإقرار عملية الاندماج الوحدوي التي تتطلبها الظروف الإقليمية في الوقت الراهن، وانفجار الأزمة الليبية، وعجز اتحاد المغرب العربي عن تقديم مشروع يحدّد سياسة مشتركة أو متبادلة بين الدول حول موضوع الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي، وضعت مجموعة بروكسل استراتيجيتها للتعاون مع الدول المغاربية على أساس التعاون الثنائي، فكانت اتفاقيات الشراكة الموقعة مع تونس والمغرب، ثم لاحقاً مع الجزائر، قد تم التفاوض عليها كل على حدة، ولم يحدث أي تشاور أو تنسيق في هذا الشأن بين الأطراف المغاربية.
ففي عام 1984، اعترفت منظمة الوحدة الأفريقية بـ"الجمهورية الصحراوية"، فقرر المغرب الانسحاب، وقال عاهل المغرب الراحل الحسن الثاني آنذاك: إنّه كان "من المؤلم أن يتقبل الشعب المغربي الاعتراف بدولة وهمية". والغرض من الدولة الوهمية هذه هو المسّ بالوحدة الترابية للمغرب، وتبرير الطموحات الإقليمية للجزائر الراغبة في أن يكون لها منفذ على المحيط الأطلسي، غير أنها صارت مشروعاً ميتاً في قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا أخيرا.
لم تكن عودة المغرب إلى أفريقيا مفاجئة، فقد جاءت في ظل التراجع الكبير من الدول الأفريقية المعترفة بـ"الجمهورية الصحراوية"، إذ أخفقت الأخيرة في أن تصبح عضوا في أي منظمة إقليمية أو دولية، بدءا بجامعة الدول العربية انتهاء بالأمم المتحدة. واللافت في العودة المغربية هو خطاب العاهل المغربي، محمد السادس، أمام أعضاء الاتحاد الأفريقي في أعقاب الانضمام، حيث أكد أن المغرب ظلّ مؤمناً بأن قوته ينبغي أن تستمد من اندماجه في محيطه المغاربي. ونبّه، في الوقت نفسه، إلى أن شعلة الاتحاد المغاربي انطفأت، وصارت معه المنطقة الأقلّ اندماجاً في القارة الأفريقية، إن لم يكن في العالم أجمع، بفعل غياب الإيمان بمصير مشترك، وضعف المبادلات التجارية بين أطرافه.
نموذج مبتكر للتنمية في أفريقيا
يؤكد المحللون المغاربة أن بلادهم تدعو إلى تفعيل الهجرة الاقتصادية نحو الجنوب، كما تؤكد أن نهضة القارة ومقاومة الإرهاب في حاجة إلى تحالف أفريقي مغاربي. فقد أعلنت الرباط دعمها، بشكل كامل، للخيارات الاستراتيجية الداعمة لشراكة جنوب جنوب، وأكّدت انفتاحها على جذورها الأفريقية، واستعدادها للمساهمة في إعادة البناء والاستقرار الاقتصادي والنهوض الاجتماعي في بلدان القارة. وأكّدت الزيارات الأفريقية المكثفة للعاهل المغربي الملك محمد السادس، خلال السنوات الثلاث الأخيرة لعدد من البلدان الأفريقية (2013-2014-2015) هذا الالتزام، والتوجه الذي يؤسّس لتحرّك فعّال للمملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وكان قد طرح نموذجا مبتكرا وأصيلا للتنمية في أفريقيا، يقطع مع النماذج والتصورات التي كانت تأتي، منذ ستينيات القرن الماضي، من خارج القارة، لتعيد إنتاج مفاهيم تنموية ماضوية، أثبتت عجزها في مسايرة التطور الذي تشهده القارة السمراء منذ بداية الألفية الجديدة.
أوّل العناصر التي يقوم عليها هذا النموذج التنموي أن تتخلص أفريقيا من رواسب الماضي، وأن تستعيد ثقتها في إمكاناتها ومواردها، وفي ما تزخر به من كفاءات بشرية متوثبة. ومن هنا، شدّد العاهل المغربي على أن أفريقيا "لم تعد قارة مستعمرة"، بل قارة حيّة، ليست في حاجة لمساعدات إنسانية، بقدر حاجتها لشراكاتٍ ذات نفع متبادل ولمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية، فإذا كان القرن الماضي، كما يقول العاهل المغربي، بمنزلة قرن الانعتاق من الاستعمار للدول الأفريقية، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء، ومواجهة تحدّياتٍ عديدة تهدّد الاستقرار السياسي في أفريقيا، وتعيق النمو الاقتصادي والاجتماعي فيها، من خلال التعاون والتضامن بين الشعوب الأفريقية، واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية.
ولا يعني هذا أن التوجّه الأفريقي، مثل ما يروّج بعضهم، جاء بسبب تدهور علاقات الرباط مع شركائها التقليديين، وخصوصا أوروبا، أو بسبب فشل سياسة التواصل بين بلدان المغرب العربي، بل يأتي هذا الخيار الاستراتيجي في صلب اهتمام السيادة المغربية بتوسيع آفاق التواصل الاقتصادي والدبلوماسي بشكل أوسع. ومبادرات العاهل المغربي الأفريقية، حتى ولو عادت بالنفع على المملكة، فإن مكاسبها على الصعيد الأفريقي أكثر وأكبر، فسياسة الهجرة نحو الجنوب التي ينتهجها المغرب تشكل مصدر إلهام ونموذجا بالنسبة إلى القارة الأفريقية. وليس للمبادرات المغربية في هذا المجال هدف محلي فحسب، وإنما لها أيضا بعد قاري ودولي. ولم تبق هذه المبادرات مجرّد شعارات ترفع في المناسبات العامة، بل تجسّدت على أرض الواقع، وإن كان الموقف المغربي من الأزمة في مالي، والدور الذي لعبته الرباط في إنهاء الحرب هناك يُعدّ موقفا استثنائيا عند بعضهم، فإن الأرقام الرسمية خير دليل على أن السياسة المغربية تجاه أفريقيا سياسة أفعال لا فقط سياسة أقوال.
ولم تقتصر المساعدات المغربية على التنمية وإقامة مدارس ومستشفيات في عدة بلدان أفريقية، واستقبال المغرب 12 ألف طالب أفريقي يتابعون دراساتهم في الجامعات، بل تعدت ذلك إلى كلّ ما له علاقة بنشر التسامح والاعتدال وتعريف الأفارقة بالدين الإسلامي الصحيح، بعيدًا عن العنف والتطرّف، فلم يتردّد المغرب في إنشاء معهد لتأهيل رجال الدين وتثقيفهم، من أجل أن يكون أئمة المساجد في أفريقيا دعاة سلام ومحبة، بعيدين عن كلّ ما له علاقة بالإرهاب. وأعلنت الرباط أخيرا عن اتفاقية مع باماكو لتأهيل 500 إمام مالي، في مبادرةٍ من المتوقّع أن ينسج على منوالها أيضا مع غينيا.
وعرفت العلاقات الاقتصادية المغربية الأفريقية تطورات كبيرة ومتسارعة في السنوات الأخيرة. وأصبح المغرب اليوم ثاني بلد مستثمر أفريقي في أفريقيا، بقيمة استثمارات تتجاوز الـ400 مليون دولار، بحسب بياناتٍ رسمية. والتوجه المستقبلي للرباط هو توسيع هذا الحضور الاقتصادي، ليشمل دولا أخرى، ويشجّع قطاعات جديدة واعدة للاستثمار في البلدان الأفريقية. وترسيخا لهذه السياسة، حصل المغرب على كامل العضوية في اتحاد المجالس الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسات المماثلة في أفريقيا، بهدف العمل مع بقية أعضاء الاتحاد على إطلاق دينامية لتجسيد الانخراط الفعلي في هذه المجالس في مسار الاندماج، والعمل من أجل تحقيق التقارب بين الدول الأفريقية، لتشكيل هوية اقتصادية واجتماعية منسجمة وفعالة، طبقا لإعلان واغادوغو. ومن ثمّة، من الأولى أن يكون المغرب ضمن الفاعلين الأساسيين داخل القارة التي ينتمي إليها، وتنتمي إليه، بدلاً من أن يظل في تكتل إقليمي هياكله القائمة عاجزة، وغير مندمج عالميًا.
موت الاتحاد المغاربي
وفي الذكرى الثامنة والعشرين لقيام الاتحاد المغاربي الذي يضم المغرب وتونس وموريتانيا وليبيا والجزائر، يوم 17 فبراير/ شباط الجاري، يتم استدعاء موت هذا الاتحاد للأسباب التالية:
أولاً: لا يتعلق المأزق الناتج عن وحدة المغرب العربي، على الأرجح، بالتركيب الديني أو الثقافي الخاص بالعروبة، بل يتّصل بمشكلة النخب السياسية الحاكمة التي أصبح همها الأكبر الاندراج في قنوات النظام الدولي الأميركي بانضباط محكم للاستمرار في الحكم. وفي هذا السياق، لم تكن هذه النخب تشعر بأي نوع من الانتماء إلى العروبة السياسية، إسلامية أم علمانية. ولم تتمكن معظم الطبقات والفئات التي ظهرت في الجزء الثاني من القرن العشرين لتحكم المغرب العربي باسم شرعية قيادة حركة التحرّر، من كسب الحد الأدنى من الشرعية الديمقراطية حيال شعوبها، وذلك لفقدان الإنجازات الحقيقية في إرساء الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون، بالتلازم مع بناء المجتمع المدني الحديث. ولم تتحقق كل هذه المسائل، بل حصل عكس ذلك، أي بناء الدولة المتسلطة، وهبوب رياح القوميات القطرية المصطنعة التي باتت تشكل "جداراً حديدياً" يفصل بين بلدان المغرب العربي.
ثانيًا: الإشكاليات التي برزت على الحدود بين الدول المغاربية المعنية (الجزائر والمغرب) خلال المرحلة الماضية، سواء من حيث تحديد الحدود وحل النزاعات الجغرافية، إذ تدخل هذه الإشكاليات في نطاق استكمال بناء "الدولة الوطنية" بمفهومها القطري، أو من حيث الحيلولة دون تحول هذه الحدود إلى معبر للقوى المعارضة، يستخدمها نظام معين في صراعه السياسي مع نظام آخر، كما الحال على الحدود الليبية ـ التونسية، والحدود الجزائرية ـ التونسية، والحدود الجزائرية ـ المغربية، على سبيل المثال.
ثالثًا: حرب الصحراء الغربية القائمة منذ العام 1975، وأثرها المباشر في احتدام صراع المحاور الإقليمية بين المغرب والجزائر، والموقع الذي احتلته في استراتيجية التطويق والمحاصرة لدى كل من النظامين.
رابعًا: التناقضات الإيديولوجية والسياسية العميقة التي كانت تفصل بين أنظمة المغرب، بعضها عن بعض، من جرّاء انحياز كل نظام إلى خيارات اقتصادية ـ اجتماعية، وارتباطات دولية محدّدة. فضلاً عن ذلك، كانت التصورات المستقبلية لبناء هذا المشروع الإقليمي المغاربي، مفقودة أو غائبة، في الأغلب، أو مؤجلة إلى مرحلة تتوفر فيها حلول معينة لهذه المعضلات القائمة آنفة الذكر. وإذا كان من نافلة القول إن مسار البناء السياسي لأنظمة المغرب العربي انصب، بشكل رئيسي، على بناء الدولة القطرية، في تناقض جذري مع خط البناء القومي والوحدة العربية، والتحرّر من السيطرة الامبريالية، فإنّه من المفيد التذكير بالعوامل المحورية التي دفعت أنظمة المغرب العربي إلى التوجه نحو بناء هذا التكتل الإقليمي (اتحاد المغرب العربي)، علماً أن الاتحاد العربي الشامل لم يتحقق، والاتحادات الإقليمية لم تنجح في الماضي.
خامسًا: إخفاق التجربة الوحدوية لبلدان المغرب العربي يعود أيضًا إلى عجز هذا التكتل عن تحقيق التكامل الاقتصادي والاندماج بين الدول الخمس المكونة له، إذ لم تتجاوز العلاقات التجارية البينية 3%، في حين أن التبادل التجاري بين هذه البلدان المغاربية والسوق الأوروبية بلغ 70% من الصادرات المغاربية إلى أوروبا، و70% من الواردات منها، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وأمام إخفاق مؤسسات اتحاد المغرب العربي، لأسباب عديدة ومتنوعة، منها الخلافات السياسية والإيديولوجية والجيواقتصادية بين مختلف مكونات المغرب العربي، والتعثر في إرساء دعائم حرية الرأي والتعبير، الأمر الذي جعل أغلبية المجتمعات المغاربية تعلن إحجامها عن المشاركة في تدبير الشأن العام، وضعف الإرادة السياسية لدى النخب الحاكمة لإقرار عملية الاندماج الوحدوي التي تتطلبها الظروف الإقليمية في الوقت الراهن، وانفجار الأزمة الليبية، وعجز اتحاد المغرب العربي عن تقديم مشروع يحدّد سياسة مشتركة أو متبادلة بين الدول حول موضوع الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي، وضعت مجموعة بروكسل استراتيجيتها للتعاون مع الدول المغاربية على أساس التعاون الثنائي، فكانت اتفاقيات الشراكة الموقعة مع تونس والمغرب، ثم لاحقاً مع الجزائر، قد تم التفاوض عليها كل على حدة، ولم يحدث أي تشاور أو تنسيق في هذا الشأن بين الأطراف المغاربية.