كم هي غليظة تلك العصا التي أوجعتني بها ابنتي الصغيرة حينما قالت في أنفاس متقطعة يشوبها الحرمان: "لكم أود الذهاب للعيش مع معلمتي أنا أيضا"، صدمتني الكلمة فنظرت إليها بعين ذئب تأهّب للهجوم إلا أنه رأى نارا أحبطت مقصده فولّى مدبرا وهو مليم.
كان ذلك في وقت جلسنا فيه نستمع إلى قصة فيلم بريطاني حول فتاة لم تلقى اهتماما من أسرتها، ورغم ذكائها وحبها الشديد للقراءة لم يتسنَّ لها الذهاب إلى المدرسة إلا في السادسة من عمرها حيث تلقفتها معلّمة صالحة تبنّت موهبتها واحتضنت نبوغها وحبها للعلم. وبعد أحداث ليست بالقصيرة تنتهي القصة بأن تترك البنت منزل والديها بالتبني وتفضّل العيش مع معلمتها الحنون. في نهاية الفيلم قذفت ابنتي بذاك الحجر في وجهي وهي مشغولة الفؤاد بشخصية المعلمة الرقيقة والتي تشبه في الغالب الأعم شخصية معلمتها.
أمها الحقيقية
لم يدركني ذكائي ـ كأم متعلمة ـ ساعتها فأحتوي الموقف بشكل لائق، فرحت أعايرها بما أفعله أنا أمها الحقيقية ـ وليست بالتبني ـ بكل ما أفعله من أجلها. رحت أذكّرها بأنني من يطعمها ومن ينظف ملابسها وحجرتها، أنا من يستذكر لها دروسها ويبتاع حاجياتها، أنا من يأتي لها بالحلوى المفضّلة لديها وبعروستها الجميلة، أنا وأنا ثم أنا...!
وفجأة تذكرت ما كانت تحكيه لي الصغيرة عن معلمتها البريطانية miss owen والتي طالما حدثتني عنها وعن كيفية معاملتها لهم داخل الفصل وخارجه، وعقدت مقارنة بداخلي بيني وبينها، فكانت النتيجة في غير صالحي.
اقرأ أيضا:صعيد مصر: تعذيب من أجل عيون "الشهادة"
كانت السيدة أوين، معلمة ابنتي، تتحمّل أخطاء تلاميذها وتبتسم في وجوههم النضرة غير عابئة بكمّ المجهود الذي تقدمه على مدار اليوم، لكم ذكرت لي أنها تحكي لهم القصص القصيرة وهي تغيّر من صوتها حسب اختلاف الشخصيات، وكم عاونتهم في صنع ألعاب صغيرة من الجوارب والقفازات.
تقول ابنتي إنها أقامت مسابقة للجري بينها وبينهم، وحينما سقطت الصغيرة على الأرض، احتضنتها ورفعتها لأعلى وهي تدور وتضحك، ولم تتركها حتى أشعرتها بأنها فراشة ملوّنة تطير من الفرح. لكم عادت ابنتي من مدرستها وهي تردد كلمات أغنية رقيقة كانت قد غنتها معها المعلمة.
كم ألقت إلى ذهنها من الفوازير وألعاب الذكاء، كم رسمت لها الحروف والأرقام على أشكال وألوان عدة، كم حاورتها عن أحلامها في المستقبل وأمسكت براحتيها وعلمتها الحواس الخمس، كل هذا وأكثر دار بذاكرتي فجريت إلى المرآة، فما رأيت فيها غير وجه "الشاويش عطية "، نعم هذه الحقيقة، فلم أكن لأولادي شيئا سوى ذلك الكائن المنضبط الذي يأمر وينهَى ويهاجم إن لزم الأمر.
أمٌ فظّة غليظة
لم أكن أعلم أن هناك احتياجات أساسية يحتاجونها غير المأكل والملبس، غير إجبارهم على المذاكرة في وقت اللعب، غير النوم في ساعة محددة بالدقيقة وعقاب صارم لغير المطيع.
لعلّني أذكر ذلك اليوم حين أمسكت بالريموت كنترول وأغلقت التلفاز دون إذنهم بينما كانوا مندمجين مع فيلم كارتوني، أدركت أنني كنت فظة غليظة القلب معهم. كم كنت مخطئة في ضرب ابنتي الصغيرة على كفيها، الكفين اللتين قبّلتهما السيدة أوين حينما رسمت ابنتي لها لوحة رائعة في عيد ميلادها. ليس ذلك فحسب، بل وعلّقتها على حائط بحجرة الدراسة.
اقرأ أيضا:صرخة تلميذ محبوس.. أعيته أمه
امتلأ قلبي رعبا وكمدا وهرولت إلى إبنتي، طرقت الباب، استأذنها في الدخول ورحت أحاورها عمّا تحبه مني وعمّا تكرهه.
في البداية، اعتذرت لي عمّا قالته وأكدت أنها لم تقصد سوى التعبير عن حبها وتعلّقها بالسيدة أوين، وبدأت تعدد لي مغامراتها وقصصها في المدرسة في مقابل معاناتها مع الإهمال في المنزل.
قالت بصوت مهيض: "لا أحد يهتم بي.. هل تتذكرين حينما طلبت منك يا أمي أن تحضري معي حفل المدرسة ورفضت.. زملائي جميعا فرحوا بحضور أمهاتهم، إلا أنك يا أمي أخبرتني بكونك في غاية الانشغال وأن المدرسة بعيدة عليك؟ هل تتذكرين يا أمي حينما أعطيتك شهادة تقدير من المدرسة لفوزي بمسابقة الجري، وقد نظرتِ إليها بغير اهتمام ووضعتها بالدُرج؟".. حكت ابنتي كثيرا عن قصص ما قبل النوم التي طلبتها ورفضت قراءتها لها وعن حاجتها لي وانشغالي عنها، ومعاملتي لها فقط بالأمر والنهي.
أنهت حوارها وهي تقاوم دمعة صغيرة تسللت إلى كبريائها الصغير، قاومتها واستطاعت أن تمنعها ولكنني لم أستطع، خرجت من حجرتها الدافئة وقد تملّكني شعور بالندم، إحساس قادني إلى أن اكتب إليكم ما حاك في قلبي ولم يطلع عليه الناس.
اقرأ أيضا: في مصر.. ادفع أكثر تتعلم أفضل!