استجابت الأربعينية المصرية أم دعاء لنصيحة صديقاتها بمراجعة طبيب أمراض نفسية لبحث حالة زوجها المفرج عنه بعد اعتقاله عامين، إذ تغير كثيرا بعد أن خرج من محبسه في سجن أبو زعبل شمالي القاهرة في إبريل/نيسان 2017.
كانت أم دعاء، كما فضلت أن يتم تعريفها مراعاة لمشاعر عائلتها، تتوقع أن يعاملها زوجها بشكل جيد بعد خروجه، كما كان يحدث قبل سجنه، ولكنها فوجئت طبقا لروايتها بشخص آخر مختلف في مشاعره العاطفية وعلاقاته الاجتماعية، إذ تحول من إنسان منفتح إلى انطوائي يخاف من مواجهة الناس، موضحة أن زوجها قد تعرض للتعذيب داخل محبسه، وهو ما ترى أنه السبب المحتمل لتغيّر حالته.
أم دعاء ليست الوحيدة التي عانت من التغيرات التي حدثت لزوجها بعد الاعتقال، إذ تزداد الضغوط التي يتعرض لها المعتقلون داخل السجن وخارجه في ظل معاناة الحياة اليومية، بدءا من البحث عن عمل، أو السفر للخارج هربا من الملاحقات الأمنية المتوقعة، فضلا عن حالة العزلة التي فرضها بعضهم على أنفسهم أو فرضتها عليهم الأجواء في مصر، طبقا لـ عزت غنيم الأمين العام للتنسيقية المصرية للحقوق والحريات والذي أعد مركزه الحقوقي مؤخرا دراسة عن الاعتقال وتأثيره على حياة المعتقلين، بعد أن رصد اعتقال ما يقرب من ستة آلاف مواطن من بينهم 190 سيدة وفتاة خلال عام 2016، وهو العدد الذي زاد بنسبة تقترب من 50 في المائة في عام 2017.
وتعد متابعة حالة المفرج عنهم ضمن مجالات عمل المركز، كما يقول غنيم، وطبقا لحالات موثقة فإن المفرج عنهم يتعرضون لأزمات نفسية ومادية بعد خروجهم، نظرا لتغير الأوضاع التي تركوها قبل حبسهم، وعن أبرز المشاكل التي رصدوها قال غنيم "الخوف من الملاحقات الأمنية هي الأكثر، مما يدفع المفرج عنه للبحث عن محل إقامة آخر غير الذي كان يعيش فيه، وربما يضطر إلى تغيير إقامته أكثر من مرة، ويكون مجبرا وقتها لتغيير مدارس أبنائه، وعلاقاته الاجتماعية، وغالبا ما يلجأ إلى العزلة والانطواء حتى لا يعرفه أحد"، هذا بالإضافة إلى مشاكل الحصول على عمل، نظرا للإجراءات الأمنية القاسية التي فرضتها أجهزة الأمن على أصحاب العمل، لكن حتى إذا لجأ إلى السفر للخارج فإنه يواجه أزمة كبيرة في الخروج الرسمي من المطار، لأنه بعضهم ممنوع من السفر وفي حالة ذهابه إلى المطار فإن القبض عليه مرة أخرى أمر وارد للغاية، أما إذا خرج بشكل غير رسمي فإنه بهذا الشكل قد فرض على نفسه الهجرة الدائمة، أو كما يقولون اشترى تذكرة ذهاب بلا عودة.
عزلة وتشويه
على الرغم من أن القانون المصري لم يضع نصوصا مقيدة للمفرج عنهم في العمل أو الحركة، إلا أن الأمر مختلف مع السجين السياسي الذي يواجه تعنتا إما نتيجة الخوف الذي يسيطر على المجتمع المصري الآن أو نتيجة تأثر بعضهم بالحملات الإعلامية التي شوهت المخالفين لنظام السيسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين بحسب الحقوقي غنيم.
ما ذهب إليه غنيم عبرت عنه حالة الخمسيني شريف الحلواني الذي أفرجت عنه السلطات المصرية في يوليو/تموز 2017 بعد اعتقال استمر لثلاث سنوات بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين والعمل على قلب نظام الحكم، إذ يعاني الحلواني من عزلة تدفعه إلى البقاء في منزله طوال اليوم، وحتى عمله الذي استطاع أن يعود إليه بعد إطلاق سراحه أصبح يشعر فيه بالوحدة والكراهية، فزملاؤه في العمل إما أنهم خائفون من التعامل معه حتى لا يتعرضوا للمساءلة الأمنية، وإما أنهم يتعاملون معه بحالة من الكره متأثرين بما كان يتم تريده عليه، رغم أنه حاصل على حكم قضائي بالبراءة.
يقول لـ"العربي الجديد" إنه تعرض للاعتقال قبل ثورة يناير على يد نظام مبارك أكثر من مرة، وكان زملاؤه وجيرانه يقابلونه بالترحيب والاحتفاء، وهو ما اختفى بعد التجربة الأخيرة رغم ثقة معظمهم أنه تعرض للظلم، ولعل هذا ما دفعه إلى عدم الانتظام في العمل مما أثر عليه بالسلب من الناحية المادية.
اعتقال وخراب ديار
حالات أخرى وثقها "العربي الجديد" ينطبق عليها القول المصري الشائع "موت وخراب ديار" من بينهم أبو المعاطي الحسيني والذي تخرج في كلية الطب البيطري بجامعة المنصورة قبل خمسة عشر عاما وتفرغ للعمل في مشروعه الخاص بمزرعة للدواجن كانت تحقق له دخلا جيدا حتى تم اعتقاله على ذمة قضية تظاهرة في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية في وسط دلتا مصر عام 2015، ثم خرج من السجن بعد عام على ذمة القضية التي صدر عليه فيها حكم غيابي بالسجن سبع سنوات، ما اضطره لترك مزرعته والتنقل من بلد إلى آخر هربا من الملاحقات الأمنية، وهو ما أدى في النهاية لتراكم الديون عليه وتعرضه لأزمات مالية متعددة، تسببت في إصابته بعدة أمراض مات على أثرها بالحسرة، تاركا وراءه زوجة وثلاثة أبناء ملزمين بسداد مليون جنيه مصري (ما يقرب من 58 ألف دولار أميركي).
مبادرات فردية لدعم المعتقلين
حالة الحسيني السابقة تابعها الباحث الاجتماعي عبد الله إبراهيم، المتخصص في دعم أسر المعتقلين والشهداء والذي أكد لـ "العربي الجديد" أنه شكل مع عدد من الشباب والفتيات والسيدات ما يشبه مجموعة عمل لدعم المعتقلين وأسرهم وكذلك متابعة أسر الشهداء، مشيرا إلى أن مجموعته التي تعمل بشكل غير رسمي للخوف من ملاحقتها أمنيا، رصدت الكثير من الأزمات التي يعانيها الخارجون من السجون، منها الأزمات النفسية التي يواجهوها وهو ما يمكن أن يؤثر على استقرارهم الأسري، فهناك مثلا حالات وصلت لحد الطلاق لفشل الزوج الذي كان معتقلا في تلبية متطلبات بيته الزوجية والاقتصادية، وهروبه من المسؤولية الأسرية، وآخرون تعرضوا لمشاكل صحية مثلت لهم صدمة نفسية كان يصعب تجاوزها مما أدخلهم في حالة من الانطواء والاكتئاب، مضيفا أن أبرز المشاكل هي أيضا المتعلقة بالحصول علي العمل، نظرا للفصل التعسفي الذي تعرضوا له قبل خروجهم من السجون، وما وجدوه بعد خروجهم من صعوبة الحصول على عمل.
وتحدث إبراهيم عن حالات حاولت السفر بالفعل، ولكن تم اعتقالهم مرة أخرى، وأشخاص آخرين تمكنوا من السفر بشكل غير رسمي، ولكنهم تركوا أهلهم، وأصبحوا في أزمة إضافية لأنه بات عليهم توفير مصروفاتهم ومصروفات أهاليهم في مصر، وهو ما اضطرهم للعمل في مهن لا تتناسب مع مؤهلاتهم أو إمكاناتهم كعمال نظافة أو بائعين على الأرصفة، قائلا لم يعد الاعتقال يوقف حياة السجين فقط، بل يدمرها وربما ينهيها.