المعارك السورية ميدانياً.. الجيوبولتيك و"الاقتراب غير المباشر"
وإذ يقوم التحليل الجيوبولتيكي، في العموم، على تجاهل الحدود لصالح التركيز على حقائق الجغرافيا الأزلية، فإن الحاجة إلى تجاهل الحدود في الحالة السورية تزداد، بسبب التعسفية التي تم بها رسم حدود الكيان الوليد في مطالع العقد الثالث من القرن الماضي.
تمثل سورية القلب الجيوسياسي لمنطقة الهلال الخصيب؛ فهي تتوسط الطرق بين المراكز الجيوسياسية الكبرى في الشرق الأوسط. هذه المراكز، هي: هضبتا فارس والأناضول، صحراء نجد، بلاد ما بين النهرين، ووادي النيل. تاريخياً، شكلت بلاد الشام (بما فيها سورية ولبنان وفلسطين والأردن) مسرحاً لصراعات القوى التي سيطرت على تلك المراكز. ولا يختلف اليوم عن الأمس كثيراً. فإيران وتركيا والسعودية، مدعومةً بغالبية دول الخليج العربي، وفي مقدمتها قطر ومصر، هي الأطراف الإقليمية المؤثرة في الأزمة السورية، ولو بدرجات متفاوتة. ونظراً لتحولها إلى ساحة صراع داخلي وإقليمي، عقب انهيار نظام صدام حسين، فإن دولة العراق غدت متفرجةً على الأزمة في جارتها الغربية، محط أطماعها التقليدي منذ فجر التاريخ، بل إن هذه الدولة (العراق) باتت ممراً لإسقاط قوة أحد المراكز الجيوسياسية في المنطقة (إيران) إلى بلاد الشام.
وباستثناء مصر، المعزولة خلف الجدار الإسرائيلي الاصطناعي، لجميع هذه القوى اتصال بري مباشر، أو غير مباشر، مع الجغرافية السورية. ونتيجة هيمنتها على السياسات العراقية واللبنانية، فإن إيران قادرة على استعراض قوة هضبة فارس عبر الهلال الخصيب، وخصوصاً في سورية، أما تركيا فتتموضع في الهضبة الأناضولية المركزية المتماسة مع بلاد الشام. وتنفرد السعودية بين القوى الإقليمية الفاعلة في سورية بميزة امتلاك مضاد صدمات (العازل الأردني)، يقيها من تداعيات الأزمة السورية، ويوفر لها (السعودية)، في الوقت نفسه، نافذة تأثير على الأزمة.
في سورية، عدد من المحاور الجيوبولتيكية الأساسية، أهمها الواصل بين دمشق وحلب. هذا المحور بمثابة القلب الداخلي لبلاد الشام كلها، وليس فقط سورية. ينفتح هذا المحور بشكل كبير على المؤثرات الإقليمية عبر محورين جيوبولتيكيين أساسيين آخرين، هما الهضبة الحلبية والجسر الحوراني. تشكل الهضبة التي تتوسطها مدينة حلب، وتتوضع في القسم الشمالي من البلاد، حصناً طبيعياً، وهي امتداد لهضبة الأناضول في آسيا الصغرى. أما سهل حوران في القسم السوري الجنوبي، فهو أشبه بجسر يربط دمشق وما وراءها حتى حمص بالمنطقة الشمالية للأردن، وما وراءها حتى العقبة، وبدايات شبه الجزيرة العربية.
تفصل مدينتي دمشق وحلب، اللتين تشكلان ميناءين بريين وسط الصحراء، عن البحر سلسلة جبال واقعة إلى الغرب منهما (القلمون بالنسبة للأولى، والأمانوس واللاذقية بالنسبة للثانية). تخترق هذه الجبال معابر (جرود القلمون بالنسبة لدمشق ومحافظة إدلب بالنسبة لحلب) تربط المدينتين بالبحر. تشكل كلّ من هذه الجبال والمعابر محاور جيوبولتيكية ثانوية، باعتبارها طرق التفاف غير مباشرة للوصول إلى قلب المدينتين. ولأن مدنية حمص تتوسط محور حلب – دمشق، فإنها تتمتع بميزة جيوبولتيكية رئيسية. تحتمي حمص، كما دمشق وحلب، من البحر خلف سلاسل لبنان الشرقية. واثنتان من هذه المدن الثلاث سهل (حمص ودمشق)، وتنفرد حلب بكونها متوضعة على هضبة.
تلعب طبوغرافية مدينة دمشق دوراً رئيسياً في تحديد مستقبلها. هذه المدنية الواقعة في سهل بردى تنبسط بين جبل قاسيون والغوطة باتجاه دوما. يستحكم النظام في جبل قاسيون (للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة مقرات أساسية على امتداد الجبل) وتوابعه في جبل الرز وحي المزة 86 وعش الورور، ويغذيه طريقا دمشق - بيروت ودمشق - اللاذقية عبر حمص. في المقابل، تستحكم المعارضة في الغوطة وامتداداتها، الطوق الخارجي لدمشق. وتحتل دوما بأحراشها، وانفتاحها على سهل حوران باتجاه الأردن (عبر العتيبة)، وعلى القلمون الشرقي باتجاه الصحراء الشامية، موقع الثقل البشري والتنظيمي لهذا الطوق.
فالصراع الحقيقي على دمشق، هو الصراع بين قاسيون والغوطة على السيطرة على المدينة. يتفعل الثقل الجغرافي لجبل قاسيون نتيجة صلاته مع جبال اللاذقية، ومع شرقي لبنان عبر أوتستراد دمشق بيروت. وعلى الرغم من الحصار المفروض عليها، وقطع اتصالاتها الطبيعية مع الأردن وحمص، استطاعت الغوطة المقاومة ثلاث سنوات، وهي ستتحقق الكمون الكامل لموقعها الجيوسياسي، إذا ما تمكنت من المحافظة على روابطها مع البادية عبر الضمير، واستعادت صلاتها مع الأردن عبر العتيبة، ومنعت حزب الله من السيطرة على جبال القلمون. وعندها تحاصر الغوطة من يحاصرها (النظام المستحكم في قاسيون).
تهدف المعارك المستعرة في جرود القلمون حالياً إلى إحكام الحصار المفروض على الغوطة، وتمكين إيران وحزب الله من الانتشار في المحور الجيوسياسي الالتفافي إلى دمشق، الأمر الذي يعزز موقعهما في أي مفاوضات، ليس حول مستقبل سورية فقط، بل ومستقبل وترتيبات لبنان أيضاً.
وبالنسبة لحوران، ليست الغوطة سوى نتوء متقدم للسهل، متماس مع العاصمة. لذلك، تحمل معارك القلمون ببساطة صفة إقليمية. وربما يكون أفضل دفاع عن عرعر السعودية هو بتأمين جرود القلمون من السيطرة الإيرانية. فإذا ما أحكم حزب الله سيطرته على الجرود، فإنه سيكون في وضع أفضل، لشن حملة على الغوطة الشرقية في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز المقبلين. وهذا سينعكس على المعارك المستعرة في حوران ومثلث دمشق درعا القنيطرة.
يسعى حزب الله إلى تكرار سيناريو القصير، عبر معارك جرود القلمون. ومثلت معارك مدينة القصير في مايو/أيار من العام 2013 أكبر نكسة تعرضت لها الثورة السورية، لأنها سمحت لحزب الله وإيران بالتمركز على المحور الجيوسياسي الالتفافي إلى حمص، عبر سلاسل لبنان الشرقية. وكانت النتيجة إحكام الحصار على الثوار في حمص، وأخيراً، اتفاق حمص الشهير، الذي عزز مواصلات النظام في المحور الجيوبولتيكي لسورية.
وتتمحور استراتيجية حزب الله العسكرية في سورية حول نظرية في التكتيك العسكري، استخلصها المؤرخ الحربي البريطاني، ليدل هارت، تؤكد على الحسم من خلال "الاقتراب غير المباشر" من الهدف وضربه من طرق التفافية.
وتحتل حلب موقعاً سامياً في الخارطة الجيوساسية للدولة السورية، فهي قلب الشمال السوري من دون منازع. هذه المدينة المحمية نتيجة تموضعها على هضبة هي أغنى المدن السورية قاطبة، وأشدها ديناميكية وانفتاحاً على المراكز الجيوسياسية الكبرى للمنطقة. فعبر الفرات، تنفتح حلب على الجزيرة الشامية وما وراءها في بلاد ما بين النهرين، وعبر غازي عينتاب على الهضبة الأناضولية، وعبر ميناء اللاذقية على البحر المتوسط. وتاريخياً، كانت حلب المحطة النهائية لطريق الحرير القادم من الصين والهند عبر خراسان وفارس.
وتمسك حلب بنبض التوازنات التاريخية لشمال سورية، خصوصاً وبقية البلاد عموماً. وتفيد دلائل تاريخية بأن صراعات شهدتها مناطق الجزيرة أو اللاذقية أو دمشق، حسمتها مدينة حلب التي تملك القدرة على التأثير في مصير مسائل الأقليات في سورية (الأكراد والعلويين)، والتي لا تترك تداعياتها على الأوضاع الداخلية في العراق وتركيا فحسب، بل وعلى مجمل السياسات الخارجية لهاتين الدولتين، وربما على النظام الإقليمي في المشرق العربي.
هددت استراتيجية النظام وإيران في "الاقتراب غير المباشر" من حلب عبر شمالها، بقطع خطوط اتصال الثوار مع تركيا. وبينما كانت محدلة القوات النظامية الإيرانية الشيعية المتحالفة تتقدم في شمال حلب، كان المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، يروج خطة التجميد في مدينة حلب، والتي ستنتهي بتسليم الثوار سلاحهم للنظام.
جاء رد الثوار على محاولة النظام تطويقهم في حلب، بإتباع تكتيك "الاقتراب غير المباشر" في جسر الشغور، عندما التفوا على حلب واللاذقية من إدلب. لذلك، فإن مصير حلب واللاذقية بل وحماة أيضاً، معلق بمجريات المعارك المستعرة في محافظة إدلب التي تمثل، وبحق، قفل القنطرة عسكرياً وسياسياً ونفسياً للأزمة السورية.
وتؤكد مشاركة إيران بجيشها ومليشياتها (حزب الله اللبناني - لواء الفاطميين الأفغاني - أبو الفضل العباس العراقي)، في معارك سهل الغاب باتجاه جسر الشغور، استشعار طهران القلق على مستقبل سيطرة النظام على محور سورية الأساسي حلب - دمشق.
بمشاركتها هذه، برهنت القيادة الإيرانية أنها جاهزة لرفع الرهان؛ فإذا ما انهارت قوات الثوار في إدلب، واستحكمت القوات الإيرانية هناك، فإن إيران ستكون قد احتلت مكمناً سيمكنها من تحديد مصير معركة حلب، بل وتهديد هضبة الأناضول نفسها، بسهولة. ولوجود قوات إيرانية في إدلب أبعاد شديدة الخطورة على الاستقرار الداخلي في تركيا، لأن هذه المحافظة تحاذي ولاية هاتاي (لواء الاسكندرون)، حيث تقطن غالبية من العلويين العرب القريبين من النظام.
وبينما تريد إيران سد الثغرة التي نجح الثوار في فتحها من جسر الشغور باتجاه سهل الغاب، فتح الثوار معارك في الحولة (شمال غرب حمص)، مع تحضيرهم لمعارك جديدة في حلب، من أجل إنهاء هجوم النظام على المدينة. ومن نافلة القول إن استكمال الثوار سيطرتهم على حلب، إذا ما حصلت بالفعل، ستكون أهم تغيير قد تسجله الحرب السورية منذ بداياتها، فالمدينة حصن طبيعي يصعب على النظام استعادته إذا ما خسره.
هكذا تخاض على الأرض السورية معارك "اقتراب غير مباشر" عبر محاور جيوسياسية التفافية، ستقرر مصير المحاور الجيوسياسية الرئيسية في البلاد وأدوار المراكز الجيوسياسية في المنطقة.