تبدو الساحة التونسية مقبلة على سلسلة من المواجهات السياسية الحادة التي تتعلق بخيارات الثورة وأسئلتها الكبرى، ولعل أبرز عناوينها تتمثّل في "قانون المصالحة" الذي سيُطرح قريباً في مجلس النواب، وارتدادات "قانون الإرهاب ومنع غسيل الأموال"، والمؤتمر الوطني المقبل لـ"مكافحة الإرهاب" في سبتمبر/أيلول، وفرض حالة الطوارئ والتمديد شبه المؤكد لها.
ويُلاحظ أن التحالف الحكومي في هذه الفترة أكثر تلاحماً وتنسيقاً، فيما المعارضة التونسية مشتتة، يتحرّك كل مكوّن فيها منفرداً على الرغم من تقارب المواقف من أغلب هذه القضايا. فحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" (حزب الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي) تحفّظ على المصادقة على "قانون الاٍرهاب"، في حين ذهب المرزوقي نفسه إلى أكثر من ذلك عندما أعلن رفضه للقانون لأنه يتضمن عقوبة الإعدام. وكذلك تحفّظ "التيار الديمقراطي"، الخارج أيضاً من رحم "المؤتمر من اجل الجمهورية"، على هذا القانون، واعتبر أمينه العام محمد عبو أن القانون لوحده لن يكون كافياً لـ"محاربة الاٍرهاب".
في حين صوّت نواب "الجبهة الشعبية" لصالح القانون، والتزم حزبا "الجمهوري" (زعيمه نجيب الشابي) والتكتل (حزب رئيس المجلس التأسيسي السابق مصطفى بن جعفر) الصمت تجاه القانون، ولم تكن مواقفهما وبياناتهما بمناسبة عيد الجمهورية مهتمة أصلاً بالإشارة للقانون، وذلك للابتعاد عن الإحراج وتفادياً لردود الفعل التي انتقدت معارضي المشروع أو حتى المتحفظين عليه.
غير أن "قانون المصالحة" يبدو أكثر توحيداً لمواقف المعارضة على الرغم من أن هذه المواقف بقيت منفردة أيضاً. فقد عبّر حزب "التكتل" عن رفضه لمشروع قانون "المصالحة الاقتصادية والمالية" الذي تقدّم به الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وتبنّاه مجلس الوزراء، وطالب بسحبه لأنه يشكّل مخالفة للدستور ويرسي مساراً موازياً للعدالة الانتقالية، خلافاً لما أقرّه الدستور في منظومة العدالة الانتقالية وإلزامه للدولة بتطبيقها في كل ميادينها. وبحسب الحزب، يمثّل هذا القانون كذلك مخالفة لمبدأ الفصل بين السلطات، إذ يجعل العدالة الانتقالية من اختصاص السلطة التنفيذية من خلال تدخّلها في آلية التحكيم.
كما أعرب الحزب "الجمهوري" أيضاً عن تمسّكه بمسار العدالة الانتقالية ودعمه لهيئة "الحقيقة والكرامة" ورفضه لمبادرة السبسي حول ما سُمي بـ"المصالحة الوطنية"، معتبراً أنها تُشكّل إجهاضاً لمسار العدالة الانتقالية، وحجباً للحقيقة وتغطية على منظومة الفساد التي نهبت المال العام واستفادت من قربها من مراكز القرار إبان حكم الاستبداد، بحسب بيان الحزب. ودعا إلى "الإسراع بسحب هذا المشروع الذي وُلد ميتاً ولا يمكنه تحقيق أهداف المصالحة المزعومة باعتبار رفض أغلب القوى السياسية والمدنية له".
وفي الوقت نفسه عارضت "الجبهة الشعبية" هذا القانون، وهدد قياديون منها بالنزول إلى الشارع إذا لم يتم سحبه، وكذلك فعل حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" وكل أطياف المعارضة، التي عارض أغلبها قانون الطوارئ وبعضها الجدار العازل مع ليبيا.
غير أن كل حزب من المعارضة يغرّد منفرداً، وتشوب علاقات هذه الأحزاب ببعضها البعض حالة من التنافر الواضح، ولم تنجح مواقفها المتجانسة في العديد من الأحيان في جمعها، ولو على قاعدة المصلحة المشتركة، ما يؤكد البُعد الشخصي في هذه العلاقات السياسية الموضوعية التي كانت سبباً في خسارتها المدوية للانتخابات التشريعية الماضية. وعلى الرغم من أن جميع هذه الأحزاب تقرّ بأن تشتتها كان سبباً في الخسارة، فإن أحداً منها لم يتقدّم خطوة في اتجاه الآخر، وباءت كل محاولات تشكيل جبهات حزبية بالفشل.
اقرأ أيضاً: البرلمان التونسي يصادق على قانون "مكافحة الإرهاب" بالأغلبية
في المقابل، يبدو الائتلاف الحاكم أكثر انسجاماً وأقل تبايناً مما شهدته الأشهر الأولى من حكمه، وجرى تشكيل تنسيقية بين الأحزاب أصبحت تنسّق مباشرة مع رئيس الحكومة لدعم العمل الحكومي اليومي وما يترتّب عليه من قرارات، بالإضافة إلى تصويته المتجانس على "قانون الإرهاب"، على الرغم من الأصوات الفردية التي عكست تململاً داخل بعض الأحزاب.
وتبدو هذه الصورة إيجابية للائتلاف، على الرغم من المشاكل المكتومة في "نداء تونس" والمؤجل حسمها إلى مؤتمر مقبل لم يتحدد موعده بعد. غير أن الأحزاب الأربعة المُشكّلة للحكومة (نداء تونس والنهضة وآفاق تونس والاتحاد الوطني الحر) متفقة بشكل تام حول "قانون المصالحة"، فـ"النداء" صاحب المشروع (قانونياً يطرحه الرئيس) يلقى دعماً من "النهضة" التي أصبحت تؤمن بأن المصالحة ككل هي سبيل لتجاوز الأزمة، ولا يمكن لحزب "آفاق تونس" الليبيرالي أن يعارض هكذا مشروع، وهو الموقف نفسه لـ"الاتحاد الوطني الحر" الذي يرى في المشروع إمكانية لتحسين وضع الاستثمار وتحسين ظروف خزينة الدولة.
ولا يمكن أن يلقى المشروع داخل مجلس النواب معارضة حقيقية، غير أن أحزاب المعارضة تُلوّح بالشارع وبالضغط الشعبي، وهو ما لم يعد متاحاً بشكل كبير بسبب حالة الطوارئ التي تمنح الحكومة حق رفض التظاهرات والمسيرات لأسباب أمنية، كما تمنحها حق فض الاعتصامات والإضرابات التي تمنع سير العمل داخل المؤسسات الاقتصادية. وبحسب أطراف داخل الحكومة، فقد كان هذا التوجّه أحد أساليب المعارضة في تعطيل عمل الحكومة وعرقلة مشاريعها وإظهارها في صورة العاجز غير القادر على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
وتبدو المعارضة بهذا الشكل "مخنوقة" وغير قادرة على إسقاط مشاريع الائتلاف الحاكم، لا داخل المجلس النيابي بحكم الأغلبية، ولا خارجه بحكم قانون الطوارئ، وهو ما سيشكّل الاختبار الحقيقي المقبل، فهل ستستطيع المعارضة المشتتة إيجاد بدائل لتحقيق مطالبها، أم يربح الائتلاف الحاكم رهانه ويسيطر على الوضع بشكل تام؟
اقرأ أيضاً: الجمهورية التونسية في عيدها: تحدّيات ومصاعب