تشهد الساحة السياسيّة التركيّة الداخليّة فترة حرجة، لم تعرفها منذ أكثر من عقد، إبّان تشكيل حزب "العدالة والتنمية"، قبل انتخابات عام 2002 التي أوصلته إلى السلطة. وتمرّ المعارضة التركيّة بمرحلة إعادة تشكيل كبير لصفوفها، بلغت ذروتها في الانشقاقات التي يعيشها أكبر أحزاب المعارضة التركيّة، وهو حزب الشعب الجمهوري، للمرّة الأولى منذ إعادة تأسيسه عام 1992. ويأتي ذلك قبل ما يقارب الستة أشهر على الانتخابات النيابيّة، المتوقع انعقادها في يونيو/حزيران المقبل.
وتقدّمت النائب عن حزب الشعب الجمهوري عن مدينة أنقرة، أمينة والكر تورهان، والتي تُعدّ من صقور التيّار القومي الكمالي، بطلب إلى وزارة الداخليّة التركيّة، لتشكيل حزب جديد تحت تسمية "حزب الأناضول". وكانت تورهان قد تقدّمت قبل أسبوع باستقالتها من الحزب، مؤكدة في بيان أصدرته بأنّها "اكتفت ووصلت إلى نتيجة، مفادها بأنّ قيادة الشعب الجمهوري لا تزال مصرّة على الاستمرار في أدائها السياسي الغريب، الذي يسهم في اتخاذ قرارات قاتلة، منفصلة تماماً عن الشعب التركي". وبررت استقالتها بأنّها "لم تعد تريد البقاء أكثر من ذلك، جزءاً من سياسات ضعيفة وخاطئة من الحزب".
ويقلّل نائب الرئيس العام للحزب ولي أغاباغ، من أهميّة تأسيس الحزب الجديد، باعتبار أنّ "جميع الأحزاب التي انفصلت عن الشعب الجمهوري حتّى الآن لم تستطع الاستمرارية والبقاء"، في إشارة إلى الحزب الديمقراطي اليساري الذي كان بقيادة رئيس الوزراء التركي السابق، بولنت أجاويد، والذي رفض إعادة التوحّد مع باقي أجنحة الشعب الجمهوري، التي تشكّلت إثر انقلاب عام 1980 بعد رفع حظر ممارسة السياسة عن كبار ساسة ما قبل الانقلاب، ومن ثم السماح باستخدام اسم حزب مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، وهو حزب الشعب الجمهوري عام 1992. وكان الحزب الديمقراطي اليساري انتهى بعد وفاة أجاويد، ولم يتمكّن من الحصول على أيّ مقعد برلماني أو بلديّة.
في موازاة ذلك، فجّر اعتذار نائب رئيس حزب "الشعب الجمهوري"، سيزغين تانركولو، عن المجازر التي ارتُكبت بحق الأكراد العلويين في مدينة تونجلي (ديرسيم)، عاصفة داخليّة كبرى، أثارت خلافات واسعة بين نواب الحزب، بين رافض للاعتذار، باعتبار أنّ الدولة هي من تتحمّل المسؤوليّة وليس الحزب، وبين من اتّهمه بمحاولة يائسة لاستغلال أحداث التاريخ في السياسة.
في غضون ذلك، تحوّلت حركة الخدمة، بقيادة الداعية الإسلامي فتح الله غولان، من العدو الأول لـ "العدالة والتنمية"، إلى عدو مشترك لجميع الأحزاب المحافظة. وشهد حزب الوحدة الكبرى المعارض، ذو التوجه الإسلامي، استقالات واسعة في صفوفه، تجاوزت السبعين عضواً، بينهم كبار قياداته، احتجاجاً على النفوذ الواسع الذي باتت تتمتّع به الحركة في الحزب، وذلك بعد إعلان حزب الحركة القوميّة، ثاني أكبر أحزاب المحافظة، عن حملة تفتيش واسعة في صفوف الحزب "لتطهيره من أنصار حركة الخدمة". كما اتخذت تدابير مشددة في ما يخصّ الشخصيّات المرشّحة لرئاسة أو عضويّة اللجنة المركزيّة للحزب، أو مرشّحي الحزب للبرلمان في الانتخابات المقبلة"، وذلك بعد اعتراف نائب رئيس الحزب توغرول توركيش، أنّ "حركة الخدمة حاولت التغلغل ضمن الحزب". وأكّد رئيس الحزب، دولت باهجه لي، الأمر في وقتٍ لاحق، مشيراً إلى أن "جماعة فتح الله غولان أو حركة الخدمة، حاولت التغلغل داخل حزبه، في وقتٍ سابق، لكنّها فشلت في تحقيق ذلك".
في المقابل، لم يتردّد نواب "العدالة والتنمية"، الذين استقالوا من الحزب تعاطفاً مع حركة الخدمة، بعد إعلانه حربهم عليها، في اتّخاذ الخطوات اللازمة لتشكيل حزب جديد، إذ تقدّم النائب السابق عن "العدالة والتنمية"، إدريس بلال، بطلب إلى وزارة الداخليّة التركيّة لإنشاء حزب جديد تحت اسم حزب "التقدّم الديمقراطي". ويؤكّد أنّه يعمل على إنشاء هذا الحزب منذ ما يقارب السنتين، ويقول: "لا نزال نعمل مع أصدقائنا من مختلف الانتماءات منذ سنوات، لإنشاء الحزب الجديد، وسنشرح المزيد من التفاصيل خلال الفترة المقبلة". لكنّ الكثير من المحللين الأتراك يعتبرونه بمثابة الحزب الرسمي لحركة الخدمة، أو على أقل تقدير أحد الأذرع الجديدة للعودة إلى السلطة، بعد الحملة التي تعرّضت لها الحركة من قبل حكومة "العدالة والتنمية".
وفي ما يخصّ الأحزاب اليساريّة، كحزب العمال التركي أو الحزب الشيوعي التركي، فلم يطرأ أي تغيير على الخطاب السياسي، من شأنه أن يعيدها إلى الشارع التركي.
ويبدو أنّ المعارضة التركيّة، ونتيجة لإخفاقاتها المتكررة، تمرّ بفترة تشتّت شديدة، تزيد من ضعفها ومن احتمال فشلها مرة أخرى في الانتخابات البرلمانيّة المقبلة.
ويمرّ ممثل "الحركة القوميّة الكرديّة"، حزب الشعوب الديمقراطي، هو الآخر، بمرحلة حرجة، إذ إنّ نجاح عملية التسوية سيعني دخولاً قوياً في الانتخابات البرلمانيّة، بينما يعني فشلها القضاء على كلّ الإنجازات التي حقّقها الحزب، خلال أكثر من سنتين على بدء العملية. ويحمّل تأجيلها الحزب تبعات العنف، الذي رافق احتجاجات مدينة عين العرب بشكل كبير، ما قد يفقده الكثير من الأصوات التي حصل عليها من خارج أنصاره التقليديين في الانتخابات الرئاسيّة السابقة.