تنعكس الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي يعيشها لبنان منذ أشهرٍ طويلة، على العلاقة القائمة بين المطبوعات والمهتمّين بها، إنْ تكن المطبوعات كتباً أو صحفاً يومية أو مجلاّت أسبوعية أو شهرية أو فصلية، لبنانية أو عربيّة أو أجنبية.
الانعكاس المذكور سلبيّ، فثمن شراء مطبوعات أجنبية يرتفع عدداً تلو آخر، بحسب سعر صرف الدولار الأميركي محلّياً، والسعر موزّع على أرقامٍ تختلف بين مصرفٍ وصرّاف و"رقم" تفرضه السوق السوداء، و"آخر" رسميّ لا أحد يتعاطى به. وإذْ يثبتُ ثمن شراء المطبوعات اللبنانية (صحفاً ومجلاّت بشكلٍ أساسي) على أسعارٍ محدّدة، من دون تغيير مرتبطٍ بتقلّبات السوق، مع أنّ تكاليف صناعتها، ورقاً وطباعة ومتطلّبات تقنية، تخضع للدولار الأميركي ولأسعار صرفه هنا وهناك؛ فإنّ كتباً صادرة في بيروت تواجه "تلاعباً" في أسعارها، بحسب رغبات ناشرٍ أو صاحب مكتبة، مع "ميل" ناشرين وأصحاب مكتبات إلى بيع ما لديهم من كتبٍ، ذات طبعات قديمة، بأسعارٍ تفرضها السوق حالياً، بشكلٍ فاضحٍ ونافرٍ.
المطبوعات الأجنبيّة غير قادرة على التنصّل من أسعارٍ تعتمدها السوق المحلية، المتحكّمة بشؤون الحياة اليومية للّبنانيين، وللمقيمين في البلد. هذا يُشبه ما يعانيه الجميع بسبب الأسعار الخيالية أحياناً، المتعلّقة بالمتطلّبات المعيشية اليومية، كالمأكل والمشرب والدواء بصورة خاصة، وتنسحب إلى حاجات منبثقة من انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020) ،إذْ يتحكّم تجّار الزجاج والباطون والخشب والحديد تحديداً بالذين يحتاجون إلى هذا كلّه، لترميم أوليّ (على الأقلّ) لمنازلهم المتضرّرة، كلّياً أو نصفياً، بسبب الانفجار، فترتفع الأسعار بشكلٍ مخيف، بينما تغيب السلطات الرسمية عن دورها إزاء أبناء البلد والمقيمين فيه، وتتخلّى عن مسؤولياتها الأساسية، لانهماكها بنزاعات ومصالح وصدامات لا علاقة للبنانيين كثيرين بها.
كلّ كلام عن ارتفاع أسعار مجلاّت وصحف وكتبٍ عربيّة وأجنبيّة، يحصل (الارتفاع) في لبنان اليوم، غير مفيد وغير ضروري وغير سليم، من دون أنْ ينتبه قائلوه إلى الفلتان الخطر في السوق اللبنانية برمّتها، ولا يكترث بالمصائب الهائلة المُنزلة على اللبنانيين جرّاء الانهيار الحادّ للدولة ومؤسّساتها، وللنظام السياسي المتحكّم بالبلد وناسه. فالغالبية الساحقة من اللبنانيات واللبنانيين منهمكةٌ بكيفية تدبير أمور العيش اليومي، وترتيب أحوالها الأساسية في المأكل والمشرب والمأوى والدواء، بينما يتراجع الاهتمام بالمطبوعات كلّها بشكلٍ كبيرٍ وواضح.
لكنْ، رغم هذا التراجع، هناك متمسّكون بالمطبوعات اللبنانية والعربية والأجنبية، وساعون إلى شرائها أو الاطّلاع عليها ورقياً، خصوصاً أنّ بعض تلك المطبوعات العربية والأجنبيّة، وإنْ يكن عددها أقلّ من غيرها، لا مواقع إلكترونية لها، ولا إمكانية لاشتراكٍ شهريّ أو سنويّ بها، ما يؤدّي بالمهتمّ إلى اقتنائها ورقياً، رغم ارتفاع الأسعار. وإذْ يُؤكّد بائعو مطبوعات كهذه أنّ صحافيين وكتّاباً وأكاديميين "يستعيرون" منهم صحفاً ومجلاتٍ، سياسية أو فكرية أو أدبية أو فنية أو علمية، لوقتٍ قصير كي يطّلعوا عليها لعجزٍ عن شرائها كما في "قديم الزمان"؛ فإنّ كتباً لبنانية، صادرة قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية بعامٍ أو أكثر، تُباع حالياً وفق أسعار السوق اليومية، إذْ "تُسعَّر" غالبيتها بالدولار الأميركي، وشراء كتابٍ صادر قبل عامٍ أو أكثر يخضع لسعر صرف الدولار في السوق المحلية اليوم. أسعار المجلاّت والصحف الأجنبيّة تحديداً مرتفعة، إذْ يصل بعضها إلى 75 ألف ليرة لبنانية، كثمنٍ لعدد واحد من المجلة السينمائية الشهرية الفرنسية "بوزيتيف"، والرقم يُساوي 50 دولارا أميركيا قبل الأزمة (على أساس 1500 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد)، بينما هو الآن يُعادل 10 يوروهات (كل يورو يُساوي نحو دولار و15 سنتا)، أي 11.5 دولاراً أميركياً.
أسعار المجلات الأسبوعية تحول دون اقتنائها، إذْ إنّ أقلّ سعرٍ لبنانيّ لها يُساوي نحو 25 ألف ليرة لبنانية. المشكلة أنّ بعض أبرز المجلاّت السينمائية الفرنسية مثلاً، كـ"بوزيتيف" و"دفاتر السينما"، لا تنشر أعدادها إلكترونياً، ولا تملك اشتراكاً إلكترونياً سنوياً. يتردّد البعض عن تصريحٍ يتناول علاقته بالمطبوعات التي يعتاد شراءها منذ سنين. الأزمة سابقة على الانهيار الكبير، فبعض هؤلاء متوقّف عن العمل منذ أعوامٍ عدّة، بعد إغلاق الشركة أو المؤسّسة التي يعمل فيها. صحافيون عاطلون عن العمل، لكنّهم يُصرّون على ارتياد يومي للمقهى الذي يعتادونه منذ زمن أيضاً. يكتفون بقراءة بعض المطبوعات التي يستعيرونها من بائعٍ، له في شارع الحمرا سنين مديدة من العمل، فهم عاجزون عن شرائها.
البائع نفسه نعيم يقول إنّ الوضع متبدّل للغاية منذ بضعة أعوام، لكنّ الأزمة الاقتصادية أقسى من أي وقتٍ ماضٍ، فهي "تطحن" الجميع، بسبب ارتفاع الأسعار، وإنْ يكن هناك تفاوت كبير بينها أحياناً. يقول آخر إنّ تفشّي وباء "كورونا" في العالم سببٌ لتعطّل التواصل بين لبنان والدول الأخرى، ما يؤدّي إلى ارتفاع أسعار المطبوعات الأجنبية، الذي يستمرّ حالياً رغم فتح مطارات كثيرة في العالم. مجلات أسبوعية يتراوح سعرها الأوروبي بين 4.5 و6 يوروهات، تُباع حالياً بين 35 ألفاً و45 ألف ليرة لبنانية، بينما مجلاّت شهرية يصل سعر العدد الواحد منها إلى 71 ألف ليرة لبنانية، مقابل 7 يوروهات فقط (المجلة الفنية الفرنسية Beaux Arts مثلاً).
أما "فورين أفيرز" Foreign Affairs، التي يبلغ سعرها الأصلي 12.99 دولاراً أميركياً، فتُباع في بيروت بـ49 ألف ليرة لبنانية فقط. المجلة الأدبية الفرنسية ""لير" Lire يتحوّل سعرها الأوروبي من 8.90 يوروهات إلى 31 ألفاً و500 ليرة لبنانية. هذا مرتبط بتكاليف الشحن، كما يُقال. فاللبنانيون يتعاملون بالدولار الأميركي ولا يكترثون باليورو الأوروبي الذي يُحوّلونه سريعاً إلى دولارات تُصرف محلياً بحسب سعر السوق السوداء غالباً (يتأرجح بين 7000 و9000 ليرة لبنانية)، أو سعر المصارف/ مصرف لبنان (3800 ـ 2900 ليرة لبنانية للدولار الواحد)، بحجّة ارتفاع تكاليف الشحن.
وإذْ يُعتَبر هذا "أمراً واقعاً" ينفضّ عنه لبنانيون كثيرون لشحّ المال لديهم، ولاهتمامهم الأول بالمتطلّبات اليومية الأساسية، فإنّ السؤال مطروحٌ على بعض المطبوعات اللبنانية، خصوصاً تلك الصادرة قبل أعوامٍ على بداية الأزمة الاقتصادية والانهيار الحياتي: ما الدافع إلى رفع الأسعار بشكلٍ خيالي، مع أنّ الكتاب مطبوع بتكاليف ما قبل الأزمة والانهيار، وإنْ لم يتم بيعه فهو باقٍ في مخازن دور النشر، أو على رفوف المكتبات (وهذا غير حاصل مع الجميع)؟