"الجوع"، "الفقر"، "التهميش"، "البطالة"، "غلاء المعيشة"... وغيرها من الكلمات التي توصّف الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ لتونس قبيل ثورة يناير/ كانون الثاني 2011. كانت هذه المفردات الأكثر حضوراً في حوارات النّاس وتقارير وسائل الإعلام والمقالات الصحافيّة خلال فترة الانتفاضة ضدّ نظام زين العابدين بن عليّ. وكان الفقر قادحاً لغضب النّاس وثورتهم ضدّ نظامه الذّي أفقر البلاد والعباد واحتكر الثروة الوطنيّة لحاشيته والمقرّبين منه.
واليوم، بعد ثلاث سنوات من هروب الرئيس السابق وتداعي أركان حكمه، تعود هذه الكلمات لتهيمن على الساحة وتكون محور اهتمام الإعلام والمواطنين وبوصلة مواقف الشعب وخطابات السياسيّين وبرامج الأحزاب.
ارتدادات كارثية
كان لعملية السطو الممنهج على الاقتصاد الوطنيّ في عهد بن علي، ارتدادات كارثيّة على مستوى معدّلات الفقر في تونس، حيث ناهز عدد الفقراء سنة 2010 المليون وستمئة ألف تونسيّ، حسب المعهد الوطنيّ للإحصاء في تلك السنة.
وتبدو مظاهر البؤس أكثر وضوحاً في المناطق الداخليّة للبلاد، حيث تغيب البنى التحتيّة والاستثمارات المحليّة والخاصّة، لتتضاعف فيها معدّلات الفقر والتشرد، وذلك كنتيجة لسياسة التفرقة الجهويّة التي اعتمدها النظام السابق بتركيزه 80% من المشاريع الحكومية والخاصّة في العاصمة والشريط الساحليّ الشرقيّ.
وقد علّق الخبير الاقتصادي، فتحي الشامخي، حول موضوع ارتباط البؤس بالثورة قائلاً إنّه يعتقد، خلافاً لما يزعمه البنك الدولي في تقريره الأخير، أن ما كان يُميّز بن علي ليس استيلاؤه على الاقتصاد، أو حتّى فرض حصار عليه، وإنّما كونه كان على رأس نظام سياسي استبدادي. فككل دكتاتور، كانت سُلطته تستند إلى جهاز دولة مُستبدّة.
كما أنّ ما كان يميّز الدّكتاتور هو كونه كان يسخّر الدولة كلها ويعتبرها الأداة السّياسيّة لنظام اقتصادي فُرض على تُونس على خلفيّة فشل النّظام "البورقيبي" في تحقيق الازدهار والرّقيّ الذي كان يعد به. بالاضافة الى تداعيات اكتساح نظام النيوليبراليّة العالم في حينه.
ويضيف الشامخي أنّه كان من الطبيعي أن تمتدّ يد بن علي وجماعته إلى ثمار الجهد الجماعي للشعب التونسي وإلى خيراته، وهو الذّي كان يحظى بدعم كامل من القوى العالمية التي أطلقت يده في البلاد.
تراجع المؤشرات الاقتصادية
هكذا، فإن القوة التي لعبت دور المحرك الرئيسي للثورة، كانت تلك الفئة الاجتماعية المتكونة من طلاب الجامعات والخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل ومئات الآلاف من المواطنين المنسيّين في محافظات البلاد الغربيّة، وذلك بعد تعاظم الإحساس بالظلم الاجتماعي الناجم من حالة الفساد التي عرفتها تونس، واستئثار حفنة قليلة من المستفيدين من نظام بن علي بجزء هام من الاقتصاد الوطني.
بعد هروب الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ، مساء الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2011، كانت آمال الناس وانتظاراتهم أكبر من أن يحدّها الخوف أو الفراغ اللذين أعقبا انهيار النظام. بل وانتظر الكثيرون أنّ شبح الجوع والفقر سينقشع أخيراً. لكن مع تدهور المؤشّرات الاقتصاديّة، عاد الخوف لاجترار تجربة الماضي ليعشّش في عقول النّاس.
وخلال الفترة الماضية، حصل استثمار للخوف من العودة إلى الماضي. ولم يأتِ هذا الخوف من فراغ، حيث ارتفعت نسبة التضخّم لتناهز نسبة 6%، وفق الدراسة التي أصدرها المعهد الوطني للإحصاء أواخر شهر أغسطس/ آب الماضي. وتأرجحت نسبة التضخّم للمواد الغذائيّة بين 7% و10%، فيما ناهزت نظيرتها بالنسبة للمحروقات نسبة 10%.
في حين لم يشهد الدخل الفرديّ للمواطن سوى زيادة لم تتجاوز نسبة 6% لموظفي القطاع الخاص، حسب الاتفاقية الأخيرة بين الحكومة والاتحاد العام التونسيّ للشغل، بينما جرى تأجيل النظر في موضوع الزيادات في الأجور بالنسبة للقطاع العموميّ لما بعد الانتخابات الأخيرة.
تزايد معدلات الفقر
أما على صعيد الفقر، فقد كشف مسح قامت به وزارة الشؤون الاجتماعيّة في سنة 2014 عن بلوغه نسبة 15,2% مع تفاوت هائل في الجهات الداخليّة، حيث تتجاوز نسبة الفقر في مناطق كالقصرين وسيدي بوزيد، اللتين كانتا مهد الثورة، الـ30%، في حين تجاوزت البطالة 16,5%، حسب التقرير الأخير للمعهد الوطني للإحصاء.
ويشرح رئيس مكتب تونس لمنظّمة الدفاع عن المستهلك، حسني عبد الواحد، لـ"العربي الجديد"، عجز المنظّمة عن التصدّي للغلاء الفاحش الذي طال معظم الموّاد الاستهلاكيّة نظراً لعدّة عوامل، أبرزها سياسيّة، حيث جرى إقصاء المنظّمة من دورها الاستشاري والتعديليّ في مفاوضات زيادة الأسعار.
أمّا المستفيدون، بحسب رأي عبد الواحد، من تفاقم الغلاء وتهديد شبح الجوع والحاجة لحياة المواطنين، فهم "أصحاب المصالح والمشاريع الذّين يجنون أرباحاً طائلة جراء موجة الغلاء هذه، بالإضافة إلى السياسيين الذين يستثمرون جوع المواطن وخوفه، في الدعاية لأحزابهم واستغلال الظرف الاقتصاديّ لجني نقاط انتخابيّة".
خوف من المستقبل
هكذا امتزجت الضغوط المعيشيّة بحرب المزايدات السياسيّة، وقد تحوّلت المطالب الاجتماعية للمواطنين إلى جزء من الحملات الانتخابيّة، لا بل انتشرت في تونس ظاهرة التحسّر على الرئيس السابق بن عليّ، وذلك بعدما سوّق لهذه النظرية أنصار الرئيس السابق، لتنتشر في أوساط مَن كان النظام السابق سبباً في تجويعهم وإفقارهم.
ويقول أحمد، وهو شاب باحث عن عمل، لـ"العربي الجديد"، إنّه خائف من مستقبل غامض ومن تزايد غلاء الأسعار وانتشار الفقر وتآكل الطبقة الوسطى نتيجة لغياب خطط اقتصاديّة واضحة المعالم. ويعتبر أن هناك "حرباً تقوم بها الأحزاب منذ ثلاث سنوات رامية وراء ظهرها معاناة المواطن البسيط اللاهث وراء لقمة العيش".
في حين يعتبر أيمن أن الجوع لا يعترف بشخص أو حزب أو إيديولوجيا، "فالثورة، وإن رفعت عن رقابنا الظلم السياسيّ والقمع الأمني، فهي تسلّط على رقابنا سيف التجويع والفقر، دون أن نجد مَن يقدّم لنا بديلاً حقيقيّاً من الأحزاب الحاضرة اليوم في المشهد السياسيّ".
ارتدادات كارثية
كان لعملية السطو الممنهج على الاقتصاد الوطنيّ في عهد بن علي، ارتدادات كارثيّة على مستوى معدّلات الفقر في تونس، حيث ناهز عدد الفقراء سنة 2010 المليون وستمئة ألف تونسيّ، حسب المعهد الوطنيّ للإحصاء في تلك السنة.
وتبدو مظاهر البؤس أكثر وضوحاً في المناطق الداخليّة للبلاد، حيث تغيب البنى التحتيّة والاستثمارات المحليّة والخاصّة، لتتضاعف فيها معدّلات الفقر والتشرد، وذلك كنتيجة لسياسة التفرقة الجهويّة التي اعتمدها النظام السابق بتركيزه 80% من المشاريع الحكومية والخاصّة في العاصمة والشريط الساحليّ الشرقيّ.
وقد علّق الخبير الاقتصادي، فتحي الشامخي، حول موضوع ارتباط البؤس بالثورة قائلاً إنّه يعتقد، خلافاً لما يزعمه البنك الدولي في تقريره الأخير، أن ما كان يُميّز بن علي ليس استيلاؤه على الاقتصاد، أو حتّى فرض حصار عليه، وإنّما كونه كان على رأس نظام سياسي استبدادي. فككل دكتاتور، كانت سُلطته تستند إلى جهاز دولة مُستبدّة.
كما أنّ ما كان يميّز الدّكتاتور هو كونه كان يسخّر الدولة كلها ويعتبرها الأداة السّياسيّة لنظام اقتصادي فُرض على تُونس على خلفيّة فشل النّظام "البورقيبي" في تحقيق الازدهار والرّقيّ الذي كان يعد به. بالاضافة الى تداعيات اكتساح نظام النيوليبراليّة العالم في حينه.
ويضيف الشامخي أنّه كان من الطبيعي أن تمتدّ يد بن علي وجماعته إلى ثمار الجهد الجماعي للشعب التونسي وإلى خيراته، وهو الذّي كان يحظى بدعم كامل من القوى العالمية التي أطلقت يده في البلاد.
تراجع المؤشرات الاقتصادية
هكذا، فإن القوة التي لعبت دور المحرك الرئيسي للثورة، كانت تلك الفئة الاجتماعية المتكونة من طلاب الجامعات والخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل ومئات الآلاف من المواطنين المنسيّين في محافظات البلاد الغربيّة، وذلك بعد تعاظم الإحساس بالظلم الاجتماعي الناجم من حالة الفساد التي عرفتها تونس، واستئثار حفنة قليلة من المستفيدين من نظام بن علي بجزء هام من الاقتصاد الوطني.
بعد هروب الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ، مساء الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2011، كانت آمال الناس وانتظاراتهم أكبر من أن يحدّها الخوف أو الفراغ اللذين أعقبا انهيار النظام. بل وانتظر الكثيرون أنّ شبح الجوع والفقر سينقشع أخيراً. لكن مع تدهور المؤشّرات الاقتصاديّة، عاد الخوف لاجترار تجربة الماضي ليعشّش في عقول النّاس.
وخلال الفترة الماضية، حصل استثمار للخوف من العودة إلى الماضي. ولم يأتِ هذا الخوف من فراغ، حيث ارتفعت نسبة التضخّم لتناهز نسبة 6%، وفق الدراسة التي أصدرها المعهد الوطني للإحصاء أواخر شهر أغسطس/ آب الماضي. وتأرجحت نسبة التضخّم للمواد الغذائيّة بين 7% و10%، فيما ناهزت نظيرتها بالنسبة للمحروقات نسبة 10%.
في حين لم يشهد الدخل الفرديّ للمواطن سوى زيادة لم تتجاوز نسبة 6% لموظفي القطاع الخاص، حسب الاتفاقية الأخيرة بين الحكومة والاتحاد العام التونسيّ للشغل، بينما جرى تأجيل النظر في موضوع الزيادات في الأجور بالنسبة للقطاع العموميّ لما بعد الانتخابات الأخيرة.
تزايد معدلات الفقر
أما على صعيد الفقر، فقد كشف مسح قامت به وزارة الشؤون الاجتماعيّة في سنة 2014 عن بلوغه نسبة 15,2% مع تفاوت هائل في الجهات الداخليّة، حيث تتجاوز نسبة الفقر في مناطق كالقصرين وسيدي بوزيد، اللتين كانتا مهد الثورة، الـ30%، في حين تجاوزت البطالة 16,5%، حسب التقرير الأخير للمعهد الوطني للإحصاء.
ويشرح رئيس مكتب تونس لمنظّمة الدفاع عن المستهلك، حسني عبد الواحد، لـ"العربي الجديد"، عجز المنظّمة عن التصدّي للغلاء الفاحش الذي طال معظم الموّاد الاستهلاكيّة نظراً لعدّة عوامل، أبرزها سياسيّة، حيث جرى إقصاء المنظّمة من دورها الاستشاري والتعديليّ في مفاوضات زيادة الأسعار.
أمّا المستفيدون، بحسب رأي عبد الواحد، من تفاقم الغلاء وتهديد شبح الجوع والحاجة لحياة المواطنين، فهم "أصحاب المصالح والمشاريع الذّين يجنون أرباحاً طائلة جراء موجة الغلاء هذه، بالإضافة إلى السياسيين الذين يستثمرون جوع المواطن وخوفه، في الدعاية لأحزابهم واستغلال الظرف الاقتصاديّ لجني نقاط انتخابيّة".
خوف من المستقبل
هكذا امتزجت الضغوط المعيشيّة بحرب المزايدات السياسيّة، وقد تحوّلت المطالب الاجتماعية للمواطنين إلى جزء من الحملات الانتخابيّة، لا بل انتشرت في تونس ظاهرة التحسّر على الرئيس السابق بن عليّ، وذلك بعدما سوّق لهذه النظرية أنصار الرئيس السابق، لتنتشر في أوساط مَن كان النظام السابق سبباً في تجويعهم وإفقارهم.
ويقول أحمد، وهو شاب باحث عن عمل، لـ"العربي الجديد"، إنّه خائف من مستقبل غامض ومن تزايد غلاء الأسعار وانتشار الفقر وتآكل الطبقة الوسطى نتيجة لغياب خطط اقتصاديّة واضحة المعالم. ويعتبر أن هناك "حرباً تقوم بها الأحزاب منذ ثلاث سنوات رامية وراء ظهرها معاناة المواطن البسيط اللاهث وراء لقمة العيش".
في حين يعتبر أيمن أن الجوع لا يعترف بشخص أو حزب أو إيديولوجيا، "فالثورة، وإن رفعت عن رقابنا الظلم السياسيّ والقمع الأمني، فهي تسلّط على رقابنا سيف التجويع والفقر، دون أن نجد مَن يقدّم لنا بديلاً حقيقيّاً من الأحزاب الحاضرة اليوم في المشهد السياسيّ".