المصالحة والإرهاب: التصافح بأيادٍ ملطخة بالدماء

14 يوليو 2016
(أهالي مختفين إبّان العشرية، الصورة: فرانس برس)
+ الخط -

دفعت "العشرية السوداء" في الجزائر، آلاف الشباب، إلى الالتحاق بصفوف رجال الدّفاع الذاتي، أو ما يعرف بـ"الباتريوت"، من أجل التصدي للإرهاب، على مستوى القرى والمداشر التي يقطنون بها، وقامت السلطة حينها بتدريبهم وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم وأهاليهم، في زمن لم تسلم فيه حتى عائلات المثقفين والإعلاميين والفنانين من التواجد على رأس قائمة المطلوبين من طرف الجماعات المسلحة. وكانت النتيجة هي سقوط المزيد من القتلى بين الطرفين، في معركة تبادل فيها أبناء الأسرة الواحدة طلقات النار، أحدهم في صفّ الجيش والآخر في صف "الإرهاب".

لم يكن من السهل، في ذلك الوقت، أن يتطوّع هؤلاء الشباب القاطنون في القرى والأرياف، لحمل السلاح في وجه الجماعات المسلّحة، فالإقدام على هذه الخطوة يضعهم وأقاربهم تحت طائلة التهديد بالقتل، في وقت كان فيه "الإرهاب" يغتال الصحافيين والمسرحيين والفنانين والروائيين والشعراء والسياسيين، وقد ذهب ضحيّة هذه الاغتيالات أبرز الوجوه الفنية والأدبية والإعلامية والسياسية، من بينهم فنان الراي الشهير، الشاب حسني، والمغني القبائلي معتوب الوناس، والمسرحي عبد القادر علولة، والكاتب الطاهر جاووت.

دفع هذا إلى انسحاب الكثير من الشباب، في ذلك الوقت، من كل المبادرات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ووصل الأمر إلى اختفاء بعضهم تحت أسماء مستعارة، بينما قرّر كثيرون الهجرة إلى الخارج من دون رجعة، خاصّة في ظل اتّساع دائرة الغموض حول أسباب المأساة التي عرفتها الجزائر، حيث كان من الصّعب معرفة هويّة الأطراف المباشرة التي تقف وراء الاقتتال.


من يقتل من؟
إن كان "الإرهاب" قد قتل روح المبادرة لدى الشباب أثناء "عشرية الدم والنار"، ودفعهم إلى الانسحاب من الحياة الاجتماعية، فلذلك مبرراته المشروعة؛ حين كانت يد الغدر تطاول كل الشباب الفاعلين في الحقل الأدبي والثقافي والإعلامي والسياسي، وتنال الاعتقالات من كل الذين ساروا مع المعارضة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ". وعرفت تلك الفترة مرحلة جمود على عدة أصعدة، حيث أغلقت المسارح ودور السينما، وحتى بعض المساجد، أبوابها في وجوه زوّارها، واختفت ملامح الحياة من المدن الجزائرية الكبرى، ولم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت الرصاص والانفجارات.

عدا بعض النشاطات المحتشمة، وبعض الإصدارات الأدبية التي تطرقت لهذه المسألة، واصطلح على تسميته بـ"أدب العشرية السوداء"، حيث حاول الكتّاب إعادة صياغة سؤال: "من يقتل من؟" في أعمالهم الأدبية، وتقديم قراءات رمزية بعيدة عن المواجهة في الغالب.

مدني مزراق، أمير الجماعات المسلّحة في الجزائر، المنتمي لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة، يتأسّف، في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، من استغلال الشباب كوقود لإذكاء الصّراعات الدامية في كل الدول العربية، مؤكداً أن عامل السنّ والتجربة لا يسمح للشباب بصناعة رأي عام والتأثير فيه. بل ويذهب إلى أكثر من ذلك، حين ينفي دور الشباب في المشاركة في الأدوار القيادية، ويعتبر أنه ليس من مهمّته التأطير والأخذ بزمام المبادرة، على حدّ تعبيره.

يبرّر "الأمير التائب"، الذي قاد العمليات المسلحة في سنوات الأزمة الأمنية في الجزائر، قبل استفادته من قانون "المصالحة الوطنية"، أن "الشباب يمتلك الحماسة والقوة والصدق والإرادة، ولكن العلماء ورجال الدين والسياسة يمتلكون الحكمة والرأي والتجربة، وعلى كل شخص أن يقوم بدوره في هذه الحلقة، ولكن مشكلتنا أن قادتنا العرب لا يتحلّون بالحكمة والحنكة، وإلاّ فإن التجربة الجزائرية كانت كافية لكل الشعوب العربية والإسلامية".


إرهاب مشروع
ينفي مزراق أن تكون الجماعات "الإرهابية" التي شاركت في عمليات الاقتتال أثناء "العشرية السوداء" في الجزائر تمت تحت تأثير قوى أجنبية، محملا في الوقت نفسه المسؤولية كاملة للنظام الجزائري.

ويؤكد المتحدث "إن كان هناك من الشعوب العربية من كان يملك الحق في حمل السّلاح ضد النظام فهو الشعب الجزائري، لأنها الدولة الوحيدة التي احترمت فيها المعارضة جميع مراحل الديمقراطية، واحتكمت إلى صناديق الانتخابات، وكان لا بدّ على النظام الجزائري أن يحترم إرادة الشعب، قبل أن تؤول الأمور إلى ما وصلت إليه في السابق".

يعترف أمير الجناح المسلّح بـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، بأن القوى الغربية ليست بمنأى عن التدخلات غير المباشرة في الصراعات الدامية، مؤكداً أن النظام الجزائري كانت تحركه فرنسا ضدّ الإسلاميين، وأضاف أن هذا التدخّل أطال عمر الاقتتال بين الأطراف المتنازعة على الحكم، على حدّ تعبيره.


أفكار دينية مستوردة
كثيراً ما يذهب محلّلون سياسيون إلى ربط الإرهاب بالصناعة الغربية، عكس ما ذهب إليه مزراق الذي ألقى باللائمة على أنظمة الحكم، مستدلين في ذلك بتحكّم تجّار الأسلحة في الأنظمة الرأسمالية، الأمر الذي يدفعهم إلى خلق بؤر توتر في الدول الأفريقية والعربية، للحفاظ على تجارة الأسلحة من جهة، والسيطرة على مصادر الطاقة في العالم. ويغيّب هؤلاء المحللّون الأسباب المباشرة التي أدّت إلى ظهور العمل المسلح في الدول العربية انطلاقاً من خلفيات سياسية، ودور الفرد العربي في مجابهة هذه الصّراعات.

يرى القانوني رياض الخطيب، أن الإرهاب ظاهرة دينيو-سياسية، ولها مقوّمات الطائفية والفقر والاستبداد. موضّحا، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الإرهاب هو إما استخدام الدين للوصول إلى الحكم، أو هو استخدام السياسة لفرض الدين. مستشهداً بما تقوم به إيران اليوم عن طريق مليشيات الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، وبدرجة أقل في البحرين، على حدّ قوله.

ويُرجع الخطيب الهوّة التي صنعتها الطبقة الحاكمة في الفضاء العربي بينها وبين الشعوب، وكذلك محاربتها الدؤوبة للدين، جعلت الشباب يستورد أفكاراً دينية تُصنّع في مخابر غربية، ويتبناها كونها ديناً أصيلاً كان مغيّباً. واستطرد المتحدث "التضييق على رجال الدين الحقيقيين في الفضاء العربي، وإفساح المجال لأصحاب الفتاوى الديوانية ودراويش الصوفية، أعطى الفرصة للدجالين للتكلّم باسم الدين، وذلك يمثّل خدمة للمشروع الغربي عن قصدٍ أو غير قصد".

الإرهاب بمفهومه الحديث، حسب المتحدّث، انطلق من التصفيات التي قام بها جهاز المخابرات الجزائرية "المالغ"، ضد قيادات الثورة المخالفين لتوجّهاته، معتبراً أن الإرهاب الذي تشهده المنطقة العربية، هدفه الاستيلاء على خيرات البلد المضيف بدعوى محاربة الإرهاب، وإنعاش تجارة الأسلحة، وحماية الكيان الصهيوني من الدول العربية المجاورة له.

يلخّص الخطيب كيفية التصدي للإرهاب، في مقولة رئيس البوسنة الراحل، عزّت بيغوفتش: "من الجيّد القضاء على البعوض، لكن من الأروع تجفيف المستنقعات".

رغم ما حققه قانون المصالحة الوطنية، وإسهامه في عودة الاستقرار إلى الحياة الاجتماعية في الجزائر، وتسليم عدد كبير من "الإرهابيين التائبين" أنفسهم بعد سنوات من العمل المسلّح، إلاّ أن نيران الصراعات لم تخمد حتى اليوم، وما زال هذا الاقتتال يحصد المزيد من الأرواح حتى الآن. والحل، حسب رئيس "منتدى المواطنة" كمال قرور، يكمن في دور المجتمع المدني في التصدّي لظاهرة الأعمال الإرهابية. مؤكدا، في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، أن رعاية فئة الشباب تحتاج اليوم إلى جهود استثنائية، تتجاوز التحسيس والتوعية إلى وضع استراتيجية واضحة المعالم، لحماية الثروة البشرية للأمة من الاحتراق والتآكل، على حدّ تعبيره.


مشروع استباقي
من جهته، يعاني الشباب العربي اليوم، من إقصاء وتهميش الأنظمة، حسب قرور، ويواجه تحدّي الاستدراج والتجنيد من قبل المشروع "الداعشي" من جهة أخرى، مردفاً أن الدول العربية تجني ثمار ما زرعت، لأنها تحترق وتخرّب بنيران أبنائها، على حدّ وصفه.

يرى صاحب رواية "الترّاس"، أن مشروع مواجهة "الإرهاب"، بحاجة إلى عملية استباقية تبدأ من البيت إلى دور الحضانة، إلى المدرسة، قبل أن تصل إلى مراحل أخرى من التعليم، ثم المراكز الثقافية ودور الشباب، ودور العبادة، والفضاء العام.

وعلّق المتحدّث بالقول "صراحة؛ الحديث عن مواجهة المشروع الداعشي المتطرّف، أصبح مجرد ثرثرة، في ظل غياب إرادة سياسية لدول فشل مشروعها النهضوي في التكفّل بالمواطن وتحقيق التنمية المستدامة، ولكن يبقى الأمل في فعاليات المجتمع المدني، لتنقذ ما يمكن إنقاذه للانتقال إلى مرحلة آمنة، فحين يركز الخطاب الإرهابي على الجنس، ويستدرج الشباب إلى عالم السّبي والاغتصاب وما ملكت اليمين، بعيداً عن سلطة القانون، فهذا يعني أن منظومة القيم قد اختُرقت وضُربت في العمق، ولا بدّ من مشروع مجتمع بديل، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضربات هذا الإعصار المدمّر".

في الجزائر؛ وضع عدد كبير من المنتمين إلى "الجماعات الإرهابية"، واستغنت الدولة عن رجال الدّفاع الذاتي "الباتريوت"، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك راضون عن السّلطة، فـ"الإرهابيون التائبون" يطالبون السلطة بالعودة إلى العمل السياسي بعدما تم إدماجهم في المجتمع، بينما مازال "رجال المقاومة" يطالبون بالاستفادة من منح التقاعد والتعويضات، وأصبحت السلطة الجزائرية أمام مواجهة أخرى، هي التسوية بين شباب كانوا بالأمس القريب أعداءً في ساحات القتال.


(الجزائر)

المساهمون