المصالحة الاقتصادية

27 ابريل 2017
+ الخط -
قانون "المصالحة الاقتصادية" أُسيء اختيار عنوانه، فأساء الشعب التونسي فهمه، ونجح المغالون والثورجيون في إقناع غالبية الناس بأنّه قانون لتبرئة المجرمين، ولتبييض فساد السراق والمرتشين. طبعاً، فالعنوان هو "مصالحة"، تقتضي تنازلاً من الطرفين، فأيّ تنازل من دولة ومن الشعب تجاه سارق أو متحيّل أو فاسد نهب المال العام، وساهم في إفقار الشعب، يعطي دلالة سلبية.
ثم يزداد سوء ترويج هذا المشروع، حينما يقفزون إلى نتائج غير دقيقة، فيقولون إنّ المصالحة تفضي إلى العفو عن ناهبي الثروات الوطنية، ويزيد المغالون بأسلوب استهزائي، فيقولون: مشروع القانون يدعو إلى تكريم السرّاق والتماس الأعذار لهم وتقديم الاعتذار منهم عن كلّ مضايقاتٍ تعرّضوا لها بعد الثورة! طبعاً ما كان لهذه المغالطات أن تستفحل، لولا الإيحاءات المعيبة التي تمثلها التسمية التي اختيرت لهذا المشروع التشريعي.
حدث انحراف خطير في تطبيق أحكام الفصل 96 من المجلة الجزائية، وتمّ التوسيع في مدلول عباراته، وفِي نطاق مجال الجريمة، وفقاً لاجتهادات قضائية خاطئة، انساقت وراء الحملة الشعبية للاقتصاص من كلّ من انتمى إلى المنظومة السياسية السابقة، سياسياً كان أو إدارياً من دون تمييز بين المسؤوليات، الأخلاقية والسياسية والجنائية.
قضايا الفساد المالي المتوّرط فيها إداريون ووزراء سابقون تلهج حماس الثوريين، وغالبية من يتم التغرير بهم من أبناء الشعب الكادح الذي يعيش أوضاعاً صعبة وسط تخبّط حكومي خطير، فيعتقد خطأ أنّ سبب وضعه المزري الآن هو تصرفات أولئك الإداريين والوزراء المحالين في قضايا الفساد، ولكن النظر بعمق في حقيقة مكونات الملف الجنائي الخاص بكلّ قضية يصيب الحقوقي بصدمة، حينما يكتشف مدى التزييف في تحريف الوقائع وإخراج النصوص القانونية من سياقها واعتماد فقرات منها من دون الاكتراث بوجود فقرات أخرى، أحرى بالانطباق على التصرفات المنسوبة إلى ذوي الشبهة بما يضفي الشرعية عليها.
أغلب المتورّطين من إداريين لم يغنموا فلساً واحداً من التصرّفات المنسوبة إليهم، ولم يغنم أيضاً اَي من أقاربهم، ولا معارفهم، بل لم يغنموا حتى منفعة معنوية، أما خرق التراتيب المنسوب إليهم فأكثر الأفعال لا تنطبق عليها التراتيب المزعوم خرقها.
تستوجب المقاومة الحقيقية والناجعة للفساد العام إعادة سن تشريعات حديثة للحوكمة الرشيدة، ولترشيد التصرف في الملك العام يسدّ المنافذ على كلّ تحايلٍ على الإجراءات، ويرسي مقتضيات العدل والإنصاف في الفرص وفي الانتفاع بالمرفق العام، فأغلب عمليات الإثراء بلا سبب تمّت وفق منظومة قانونية مهترئة، تشجع الإثراء الفاحش وتحفظه وتضفي الشرعية عليه.
الجري وراء إدانة الفاسدين المفترضين والاقتصاص منهم من دون مراجعة المنظومة القانونية وأحداث ثورة ثقافية تعيد صياغة مفهوم المواطنة ومدلول الصلاح في المجتمع، لن ينهي الفساد، بل كلّ جري وراء فاسد مفترض، فضلاً عن ارتفاع فرضية الخطأ وإدانة البريء في مقابل تبرئة المجرم، فهو لن يكون سوى بذور تنتج فساداً أشدّ وأشرس.
وحينما يختلط الحابل بالنابل، فلا قضاء ولا إعلام ولا أحزاب تقدر على أن تميّز الخبيث من الطيب، وأن تحدّد الفاسد الحقيقي من المصلح. هذا لأنّ الجميع ينساق وراء العاطفة، ويخضع لمشاعر الإحباط تجاه نجاعة مؤسسات الدولة.
من الأفضل أن يكون المشروع المعروض يحمل عنواناً واحداً هو "إصلاح المنظومة الاقتصادية"، منظومة تعيد صياغة ضوابط تشريعية وترتيبية للإنتاج وللخدمات وللتصرّفات الإدارية مع التأسيس لثقافة حسن التصرف، منذ نشأة الطفل في بيئته الأولى.
تلك المنظومة هي الكفيلة بكشف الفاسدين، فتسهل محاسبتهم من دون خطأ في التشخيص، ومن دون تشفٍّ وانتقام موجب للانتفاض.
63C022B8-AA10-4C0F-AD9D-01B7AB3AF104
63C022B8-AA10-4C0F-AD9D-01B7AB3AF104
حافظ النيفر (تونس)
حافظ النيفر (تونس)