حين أصدر عالم الاجتماع المصري عبد الوهاب المسيري كتابه "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ" عام 1997، أهدى العمل إلى المفكر الفرنسي روجيه غارودي، "لكن من يقرأ الكتاب ويقارنه بكتاب زيغمونت باومان "الحداثة والهولوكوست" الصادر عام 1989 يجد أنه كان على المسيري أن يهدي كتابه هذا إلى باومان، لا إلى غارودي"، هكذا يقول الباحث المصري حجاج أبو جبر في مقدمة كتابه "نقد العقل العلماني" الذي صدر مؤخراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".
الكتاب هو دراسة مقارنة لفكر باومان (1925-2017) والمسيري (1938-2008)، وكان أبو جبر قد كتب قبلاً ورقة بعنوان "المعالجة المجازية للحداثة الغربية في كتابات المسيري وباومان"، نشرها المسيري نفسه ضمن كتاب صدر عام 2007 بعنوان "المسيري في عيون أصدقائه ونقاده"، ومن المعروف أن ثمة انتقادات لصاحب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" حول علاقة الأثر والتأثر بتجربة باومان، الأمر الذي تناوله في إحدى المحاورات معه.
من هنا تأتي تجربة أبو جبر في هذه الدراسة، بعيداً عن مقولات من نوع "توارد أفكار"، أو "سرقة فكرية"، بحيث أن اهتمام الكتاب انصب على إبراز مواطن الشبه والاختلاف بين المسيري وباومان في نقد العقل العلماني باعتبارها "نتيجة لإنسانيتهما المشتركة"، وفقاً للكاتب، مضيفاً "هذا يعني أنني أضع في الحسبان تحذير المسيري نفسه من تناول الأثر بوصفه انتقال شيء مادي ومحدد ومحسوس".
بالنسبة إلى أبو جبر فإن التقاء المفكرين يتجلى في حالتين؛ الأولى في مسألة الحداثة الصلبة بتعبير باومان والمادية العقلانية الصلبة بتعبير المسيري، أما الثانية ففي الحداثة السائلة بتعبير الأول والمادية اللاعقلانية السائلة عند الأخير، حيث يرى الكاتب أن المسيري "نقل المعرفة النقدية الغربية ووضعها في السياقين العربي والإسلامي، وأنه نفسه لم يدّع أن مراجعته للحداثة والعلمانية جديدة".
الدراسة التي تسعى إلى استكشاف الخرائط الإدراكية للحداثة والعقل العلماني عند المفكرين، تأتي في سبعة مباحث، الأول بعنوان "الخطاب الإسلامي والتجربة اليهودية"، والثاني عن "النماذج والمجاز"، ثم "التنوير المتطرف"، و"الحداثة الغنوصية"، و"عواقب الحداثة"، و"مآلات ما بعد الحداثة"، و"الحداثة العلمانية في مرحلة السيولة".
في خاتمة الكتاب يؤكد الكاتب على الأثر الكبير الذي تركه باومان على تفكيك المسيري للحداثة، ويقول إن كليهما اعتبرا أن الحداثة الغربية أفرزت حالة كونية يتصدر معاناتها الغرباء والمتشردون والجماعات الوظيفية... إلخ وفي حين فقد باومان الأمل في ما بعد الحداثة، وجد المسيري في انحسار الحركات اليسارية وظهور الإسلام السياسي حافزاً على إحداث قطيعة مع الحداثة وما بعدها.