معادلة صعبة يواجهها المسرح في العراق، فثمة مسرح جادّ، وهو مسرح نخبوي يحظى بعدد محدود من المشاهدين، متخم بالتجريب، وموغل بالرموز العصية على فتح مغاليقها. وثمة أيضاً ما يشبه المسرح؛ نقصد هنا التجاري الذي يعتمد على استدرار ضحك الجمهور عبر النكتة السمجة. ولهذا المسرح جمهور كبير في أوساط مجتمع لا يودِّع تفجيرات دامية إلا لاستقبال أخرى.
شعب أصبح ضحية لليأس والإحباط؛ ولذا يلجأ إلى تلك العروض الهابطة ليزيح عن كاهله بعضاً من التوتر الذي استوطن يومه. وبغياب وسائل الترفيه، فإن المسرح التجاري يستقطب قطاعاً واسعاً من الجمهور.
وبين المسرحين/النمطين، يغيب المسرح الشعبي الذي يتناول القضايا التي تمسّ عصب حياة الناس بشكل كوميدي أو ميلودرامي، على الرغم من تاريخ المسرح العراقي الزاخر بهذا النوع، والتي قدّمتها فرق أهلية غابت عن المشهد المسرحي مثل "فرقة المسرح الحديث" التي قدّمت على "مسرح بغداد"، وهو قاعة عرض متواضعة، عروضاً كـ"نفوس" و"الخان" و"النخلة والجيران" و"رحلة على الصحون الطائرة" التي استمر عرضها لأكثر من عام، ومثل فرقتي "المسرح الشعبي" و"مسرح اليوم" اللتين قدّمتا عروضاً شعبية لافتة في "قاعة الستين كرسي"، وهو عبارة عن شقة صغيرة تم ترتيبها لتكون صالة عرض تستوعب ستين مشاهداً فقط.
جدلٌ واسعٌ يُثيره قرارٌ لـ"وزارة الثقافة" في الأوساط الثقافية الآن؛ يقضي بتأجير قاعة "المسرح الوطني" للفرق المسرحية الخاصة "للخروج من أزمة قلّة التخصيصات المالية التي حدّدت لها من قبل مجلس الوزراء ووزارة المالية"، كما تبرّر الوزارة.
ويأتي الجدل على خلفية المخاوف من إعادة تأجير قاعات العرض المسرحي الرسمية، كما حصل في منتصف تسعينيات القرن الماضي وأدّى إلى انتشار المسرح التجاري الذي يصفه فاضل خليل، الأستاذ بقسم الفنون المسرحية في "كلية الفنون الجميلة"، بأنه "فعاليات تجارية".
وبغياب الرقيب، كمظهر من مظاهر الديمقراطية، إضافة إلى غياب الاهتمام بالفنون عموماً، والمسرح والسينما على وجه الخصوص، من قبل المؤسسات الحكومية التي تسيطر عليها الأحزاب الدينية؛ تزداد المخاوف في الأوساط الثقافية من أن يتحول المسرح إلى مجرد "كباريه"، لا سيما وأن العروض المسرحية التجارية تعجّ براقصات الملاهي الليلية اللواتي تحوّلن، بين ليلة وضحاها، إلى نجمات في تلك العروض.
ويترافق ذلك مع غياب المسارح؛ إذ إنّ قاعة "المسرح الوطني" تكاد تكون قاعة العرض المسرحي اليتيمة في العراق، بعد أن أُحرقت قاعة "مسرح الرشيد" الكبيرة وقاعات عرض أخرى بعد الاحتلال الأميركي للعراق في أبريل/نيسان 2003، ولم تبادر وزارة الثقافة إلى ترميمها وإعادة تأهيلها على الرغم من مرور أكثر من 12 عاماً على إحراقها.
وهذا يعني، في نهاية الأمر، هيمنة عروض المسرح التجاري التي تجلب الموارد المالية لمؤسسة المسرح على حساب المسرح الجاد أو الشعبي، الذي يُكلّف المؤسسة أعباء إنتاج وأجور ممثلين، يقابلها فتور في إقدام الجمهور على متابعتها، نتيجة الانطباع الذي خلّفته العروض الموغلة في التجريب باعتبارها عروضاً نخبوية لا تتلاءم مع الثقافة العامة السائدة.
وعلى الرغم من تأكيد طاهر الحمود، وكيل وزير الثقافة، بأن العروض الأهلية "ستكون بمراقبة مباشرة من قبل مختصّين وأكاديميين ودائرة السينما والمسرح"؛ إلا أن مسرحيين عراقيين يقترحون على الوزارة طرح قاعتي "مسرح الرشيد" و"مسرح المنصور" للاستثمار، شرط ترميمهما وإعادة تأهيلهما لتصبحا صالحتين لاستقبال العروض المسرحية، وإن كانت تجارية؛ لأن المسرح الوطني سيكون متنفّساً للعروض الجادة، وقد يشهد انبعاث مسرح شعبي مجدداً.