لماذا يعزف الجمهور عن المسرح؟ سؤال طالما طرحه المشهد المسرحي الجزائري في سياق الاستغراب؛ الذي يُثيره عدم اهتمام المواطن "العادي" بحضور العروض التي تُقدّمها مختلف المسارح في مختلف المدن، رغم مجّانية العروض، ورغم انتعاش حركة الفن الرابع في السنوات الأخيرة (من ناحية الكمّ على الأقل).
تُقدَّم أجوبة كثيرةٌ؛ بعضها يحدّد الخلل في أحد أطراف المعادلة المسرحية، من النصّ إلى المتلقّي، أو فيها جميعاً، بينما يرجعها آخرون إلى المنظومة الثقافية برمّتها. لكن السؤال غالباً ما اكتفى بكونه ردّة فعل عابرة، من دون أن يقترب من محاولة فهم أسباب الحالة، أو يتبلور في شكل إستراتيجية تسعى إلى استعادة الجمهور إلى قاعات العرض.
بعد سلسلةٍ من الندوات التي نُظّمت مؤخّراً، وناقشت مواضيع مختلفةً تتعلّق بالفن الرابع؛ مثل "المسرح والثورة" و"المسرح والمدرسة"، استضاف "المسرح الوطني محي الدين باشطارزي"، أمس السبت، أعمال يومٍ دراسي بعنوان "المسرح والجمهور"، أثار فيه المشاركون فيه السؤال نفسَه، وإن بطريقة تحاول وضع تصوّرٍ شامل للمشهد، ومن ثمّ الخروج بتوصياتٍ تحاول تقديم خطواتٍ عملية لتجاوز حالة القطيعة بين الجمهور والخشبة.
اليوم الدراسي، الذي نظّمه "نادي امحمّد بن قطّاف"، شارك فيه عددٌ من المسرحيين والأكاديميين الجزائريين؛ من بينهم: الباحث والناقد المسرحي مخلوف بوكروح، والأكاديمي سعيد ن زرقة، والمسرحي محمد يحياوي، والمخرج والممثّل إبراهيم شرقي.
ركّز اللقاء على سلطة المتلقّي بدلاً من سلطة الممثّل أو المخرج أو الكاتب، في محاولةٍ لإثارة موضوع مهمّ لكنه يبدو منسياً إلّا من بعض الدراسات الشحيحة، في صورة كتابَي "المسرح والجمهور" و"المتلقّي والمشاهد" لـ مخلوف بوكروح، أو بعض الدراسات الجامعية التي نوقشت في "كلية الآداب واللغات والفنون" في "جامعة وهران".
تعدّدت الأسباب التي ساقها المحاضرون في مداخلاتهم، بعضُها يتعلّق بالجانب الاجتماعي أو تأثيرات المتغيّرات التكنولوجية، والآخر بذهنية الجمهور الجزائري في حدّ ذاته. لكن النتيجة هي واحدةٌ برأي الجميع؛ وهي أن المسرح الجزائري، اليوم، ليس بخير.
في كلمته، قال مدير "المسرح الوطني الجزائري"، محمد يحياوي، إنّه "لا يمكن تصوّر مسرح من دون ممثّل، أو ممثّل من دون جمهور، فهما يكمّلان بعضهما بعضاً. المسرح لا يقتصر على المشتغلين فيه، بل يشمل المتلقّي أيضاً"، متسائلاً: "هل الأعمال الساخرة، هي فقط، ما يستهوي الجمهور؟ وهل ما يهمّ الممثّل هو تقديم عرضه فقط، من دون أخذ المتلقّي بعين الاعتبار؟".
يسجّل الأكاديمي، مخلوف بوكروح، انعدام رؤية واضحةٍ في المسرح الجزائري، يؤشّر عليها بغياب بيانات وإحصائيات دقيقة توثّق للإنتاج المسرحي وتُقدّم أرقاماً عن إقبال الجمهور عليه، مضيفاً أن عقد مقارنةٍ سوسيولوجية بين جمهور الستينيات والسبعينيات وجمهور اليوم توضّح اختلافاً كبيراً في توجّهاته، وتطوّراً لدى الثاني لم يسايره المشتغلون في الفن الرابع.
انطلاقاً من أرقام دراسةٍ ميدانية أنجزها عن جمهور الفن الرابع في الجزائر، يشير بوكروح إلى تدنّي الإقبال على العروض المسرحية، ليخلص إلى أن المسرح الجزائري عرف تراجعاً من ناحية الكمّ والنوع، مرجعاً ظاهرة غياب الجمهور عن المسارح إلى قلّة الإنتاج وسوء التوزيع المسرحي، وغياب التخطيط، وسوء إعداد البرنامج، وضعف التنظيم. كما تطرّق إلى الجانب الإعلامي، مستدلّاً بجماهيرية كرة القدم التي تطغى على وسائل الإعلام، في الوقت الذي يعزف الناس عن حضور العروض، رغم مجّانيتها.
من جهته، يعتبر المخرج والكاتب، إبراهيم شرقي، أن ثمّة مستوياتٍ متعدّدة لأسباب غياب الجمهور عن المسرح، بين وجودية وثقافية وأنثروبولوجية؛ من بينها آثار العشرية السوداء، وتأثير الرياضة والتكنولولوجيات الحديثة وتغيّر ذهنيات الأجيال الجديدة، وغياب إستراتيجية ثقافية واضحة، معتبراً أن "الجمهور تغيّر، بينما بقي المسرح جامداً"، وهو ما يؤكّد، بحسبه، صعوبة أيّة محاولةٍ لاستعادة الجمهور، "خصوصاً أن المسرح الجزائري انسلخ عن الهوية والثقافة والشخصية الجزائرية ولم يعد يشبه نفسه"، داعياً الجامعات إلى الاهتمام أكثر بالبحث في المجال المسرحي.
أمّا المسرحي حبيب بوخليفة فيربط الوضع بسياسات الدولة التي "أهملت الكثير من المناحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية "النظام الذي لا يستطيع تنظيم مدينة في أمور مختلفة، كيف له أن ينظّم مسرحاً؟"، معتبراً أن رداءة العروض المقدّمة سببٌ رئيسي في طرد الجمهور، وألّا إمكانية لاستعادته إلى قاعات العرض من دون أعمال مسرحية جيّدة.
لم يقتصر البرنامج على الندوات النظرية، إذ جري أيضاً تشكيل ثلاث لجان عمل ضمّت أكاديميين وباحثين: الأولى خاصّة بالإنتاج، والثانية بالإعلام والاتصال، والثالثة بتسويق العمل المسرحي، حيثُ نوقشت تلك المحاور ضمن ورشات عمل خلصت إلى اقتراح عددٍ من التوصيات التي تهدف إلى وضع حدّ للقطيعة بين المسرح والجمهور.
من بين تلك التوصيات: وضع إستراتيجية متكاملة لجلب الجمهور، من خلال الملصقات الإشهارية، والبرامج الفصلية، وتوزيع المطويات في مختلف المرافق العامة، عدم اقتصار العروض على الفضاءات الكبرى، السعي لاستكشاف نوعية وطبيعة الجماهير، والانفتاح على الطلبة والأحياء الجامعية، والاهتمام بالحضور على وسائط التكنولوجية الحديثة.