المساواة في الجوع عدل

14 نوفمبر 2015
+ الخط -
مرة أخرى، ولن تكون أخيرة: مشكلة عبد الفتاح السيسي أنه لا يدرك تداعيات وآثار كثير مما يصرح به للشعب المصري. ومع ذلك، هو مؤمن جداً بما يقوله، ويصدّق أن ما ينطقه من "ضلالات ذهنية حادة" ليس إلا بعضاً من جواهر الكلام التي ينقصها أن تصادف أفهاماً تؤمن بها، وتتحرّك على أساسها، ليتغير شكل مصر إلى الأبد.

"هنجوع؟ وماله؟ بس هنبني بلدنا"، رسالة يقولها السيسي بالأداء الحماسي نفسه الذي كان يتحدث به قبل أشهر، عن تدفق مليارات الدولارات إلى مصر، عقب وهم المؤتمر الاقتصادي، والذي تحدث به بعد ذلك عن تغطية التفريعة التي سماها (قناة السويس الجديدة) تكاليفها خلال أسبوعين فقط. وقبل ذلك كله عن مصر التي ستصبح "أد الدنيا"، والجن والعفاريت الذين سيتعجبون من أحوال مصر، وما سينهمر عليها من أرزاق. وفي كل مرة، كانت وعوده القاطعة بعيدة عن أي خطاب عقلاني واضح، يربط الوعود بالتحديات، ويقرنها بالمخاطر والتهديدات، ليدوم أثرها في العقول، وتنعكس على أداء المواطن، أياً كان موقعه، فينتج عنها تعامل متزن من الواقع، بدلاً من ألا يسود في مصر سوى الهستيريا والتشنجات العقلية والعصبية التي جعلت المواطن يفضل العض على الحوار، ويدمن المخدرات الوطنية، بدلاً من الحقائق المرّة، وهو ما قرر السيسي أن ينهيه فجأة، ومن طرف واحد، بالحديث عن الجوع والضنى والكفاح، بعد أن وعد المواطن بالرخاء والتقدم والمستقبل المشرق.

"هنجوع وماله بس نبني بلدنا"، عبارة كان يمكن أن تصبح شعاراً فتاك التأثير، لو كانت قد جاءت على لسان زعيم كغاندي، يرتدي مئزراً غزله بنفسه، بعد أن قاطع إنتاج الشركات الأجنبية، وهو يجرّ معزته التي ربّاها، لكي يشرب من لبنها، مقدماً نموذجاً في الاعتماد على الذات لأبناء بلده. لكن، أن يقولها مسؤول، لو بيعت الملابس والإكسسوارات والأحذية والأجهزة التي يرتديها ويحملها، هو وحرسه ومرافقوه، واستبدلت بمنتجات محلية خالية من القنعرة، لساهم الفرق في تأمين غذاء منكوبي قرية غارقة في البحيرة، لثلاثة ليالٍ على الأقل، وإذا كان وقتك لا يسمح بالدخول على أي موقع تسوق عبر الإنترنت، لعمل قائمة أولية بأسعار الملابس والساعات والأجهزة المستوردة، واعتبرت حديثي هذا من الأصل تفاهةً من شخص حقود، لا يفهم أهمية أن يكون لرئيس الدولة هيبة وشمخة، فأرجوك اذهب إلى الإنترنت، واقرأ عن تجارب الدول التي ترغب في إنهاء الفقر والمعاناة، وقارن تجاربها التقشفية العملية، بتجربة مصر التي يتوجه قائدها برسائل "هنجوع.. هنعرق.. هنضحي"، لمن يتعاملون مع الجوع شبحاً مقيماً، ومع العرق هماً أزلياً، ومع التضحية تفصيلة معتادة ضمن روتين الحياة اليومية.

حين تحدث السيسي عن وعد الجوع المحتمل، لجأ كثيرون إلى ذاكرتهم القريبة، ليستدعوا القرارات التي تكرّر صدورها أخيراً، قاضية برفع مرتبات ومكافآت ضباط الجيش والشرطة و"القضاء" ومعاشاتهم، معبّرين، بشكل عفوي، عن رفضهم أن يكون الجوع من طرف واحد، هو طرف الشعب بمختلف طبقاته، سواءً التي تعيش تحت خط الفقر، أو حتى التي تعيش فوقه بقليل أو بكثير، وتدفع ضرائب ورسوماً، لا ترى لها أثراً في أرض الواقع، في حين أن الطبقة الحاكمة، بمكوناتها المختلفة، من ضباط جيش وشرطة وقضاة ورجال أعمال وإعلاميين، هي التي تتمتع منفردة بحق الشبع، بل وينتفض أفرادها غضباً، حين يتم التهديد بحجب أو تأخير بعض من مكاسبها المادية، كما حدث، على سبيل المثال لا الحصر، حين انتفض القضاة ضد وزير العدل السابق الذي أعلن أنه لا يمتلك مخصصات مادية لضمان علاج القضاة، لتتم إطاحته باستغلال جملة قالها في حوار، ويؤتى مكانه برئيس نادي القضاة المتورط في قضايا فساد، فقط ليكفل للقضاة مزيداً من المخصصات المادية، التي لو طالب بها أحد غيرهم الآن، لدوت في وجهه صرخة طبيب الفلاسفة: "إيه هتاكلوا مصر.. هتاكلوها معانا يعني؟".

ولعل الأدهى والأمرّ أن انعدام "المساواة في الجوع" لم يعد مرتبطاً بقرارات استثنائية، تصدر في ظل ظروف غير اعتيادية، لتمتين ارتباط مجموعات المصالح الحامية للدولة بجسدها المتهالك، فهو يتجاوز ذلك إلى كونه أمراً داخلاً في بنية التفكير السياسي للدولة المصرية الشائخة، منذ ما قبل عهد يوليو، ربما باستثناء سنوات قليلة، حكم فيها حزب الوفد باعتباره ممثلاً للأغلبية الشعبية، حيث كان معنياً بنيل رضا الأغلبية التي انتخبته، طبقاً لشعار (الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة). وفيما عدا تلك السنوات القليلة التي لم تكن كلها ذهبية للأمانة، كانت الحكومة فوق الأمة، وكانت القوة دائماً صاحبة الحق، وهو ما تطور بعد عام 54 تدريجياً، حتى أحكمت المؤسسة العسكرية سيطرتها على مفاصل الدولة، ليحدث إدماج قسري بين الحق والقوة، وبين الأمة والحكومة، ويتم تكريس ذلك برفع شعارات الاصطفاف والتوحد والجبهة الوطنية والإرادة الشعبية، واستخدام فزّاعات المؤامرة والمخططات الأجنبية والطابور الخامس والعمالة، بل وتم استخدام فقراء الشعب المصري أنفسهم، عبر وسائل متعددة، أداة لإخراس كل الأصوات التي تتساءل عن عدالة توزيع الدخل في مصر، والتي تطالب بحق المواطن في تحديد أولويات الإنفاق الحكومي، حتى وصلنا الآن إلى عصر "مش أحسن من سورية والعراق"، الذي يقمع أي تساؤلات عن جدوى صفقات الأسلحة المتوالية، وعن مصادر تمويلها وإجراءات شرائها ومدى الحاجة الحقيقية إليها، في بلد يعد رئيسه الشعب بالجوع، ويحاصره الإرهابيون بالخوف، وتهدده الطبيعة الغاضبة، بإظهار مزيد من عورات الماضي الفاسد.

لكي نكون صرحاء وعمليين في الوقت نفسه، كان ملف امتيازات المؤسسة العسكرية وسيطرتها على مفاصل الدولة هو لأخطر منذ قيام الموجة الأولى من ثورة يناير، وأظنه سيظل الأخطر، حتى يتم حسمه بشكل أو بآخر، وقد كنت ممن يتصورون استحالة ذلك عبر المواجهة الجذرية، لأن ذلك سيجر إلى صراع أكثر دموية، من أجل الحفاظ على "عرق الجيش"، طبقاً للتعبير الذي يمتلك السيسي حقوق صكه. وطالما كتبت عقب قيام ثورة يناير، أطالب الذين يتعجلون فتح هذا الملف، بألا يسرعوا الصدام مع المؤسسة العسكرية، وأن يتركوا حسم هذا الملف للمسار الديمقراطي، كما حدث في تركيا ودول في أميركا اللاتينية التي ابتلعت فيها المؤسسة العسكرية الدولة، حتى أدركت شعوبها استحالة استمرار ذلك، وأجبرت تعقيدات الواقع المؤسسات العسكرية، على التراجع خطواتٍ إلى الوراء، لتترسخ وتتزايد مع الوقت قيمة ابتعاد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي، واكتفائها بدورها الوطني المقرّر لها في الدستور. وللأسف، لم يكن لدى المؤسسة العسكرية في مصر من الحكمة، ما يجعلها تدرك خطورة أوضاع مصر، وضرورة مواكبة العصر وتطوراته، فتعجلت المواجهة لإعلان ألا صوت يعلو فوق صوتها، حدث ذلك بمساعدة الإخوان عقب 25 يناير، وحدث ذلك بمساعدة ما يطلق عليها (القوى المدنية) عقب لحظة التفويض، لينتهي، في رأيي، الآن، كل أمل في إدارة عقلانية لهذا الملف الشائك، ويصبح الجميع بما فيهم قادة المؤسسة العسكرية، تحت رحمة تداعيات الأحداث التي لم يعد أحدٌ، مهما ادّعى، قادراً على إيقافها أو فرملتها، وتصبح مصر بحاجة إلى تفكير جديد تماماً في هذا الملف، بعيد عن أي رؤية تلفيقية أو توفيقية، مهما كانت حسنة النية.  

مرة أخرى ولن تكون الأخيرة: "المسألة المصرية" صارت أكبر من السيسي، ومن معارضيه، ومن خلفائه المحتملين، أو غير المتوقعين، فنحن الآن بصدد بنيان فاسد، تم بناؤه "على شفا جرف هارٍ"،..... وتم تجريم كل محاولات إصلاحه عبر السنين، فأصبحت محاولات الإبقاء عليه الآن خطيرة، مثل محاولات هدمه من أجل الانتقام أو الثأر، وربما كان الطريق الآمن الوحيد  أن يتولد إدراك جمعي شعبي، باستحالة البقاء تحت سقف هذا البنيان الفاسد المتداعي، لأن على مصر أن تبني بنياناً جديداً سليماً، لا تتغول فيه مؤسسة على باقي مؤسسات الدولة، ولا يسمح فيه بوجود كيانات اقتصادية سرية، مثل كيان جماعة الإخوان المسلمين، ولا يقبل بمؤسسات اقتصادية ذات نفوذ خاص، لا يجرؤ أحد على محاسبته أو فرملته، مثل مؤسسات رجال أعمال العصر الساداتمباركسيسي، وإذا بدا لكثيرين أن هذا الحديث ليس سوى لغو حالم ومثالي ورومانسي، فعليهم، إذن، أن يجرّبوا وطأة الكوابيس التي تنتظرها مصر، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وعندها فقط سيدركون قيمة أحلام الدولة المدنية، المتحرّرة من سطوة المؤسسة العسكرية، ومن وطأة الشعارات الدينية، وخطورة بقاء هذا الكائن المشوّه المسخ، الذي لا يملك من الدولة إلا اسمها، والذي لم يأخذ من المعسكر، حتى قيامه بحماية كل أفراده من الجوع، بل أخذ منه فقط قدرة قادته على البطش، من دون ضبط ولا ربط.

وعلى الله قصد السبيل.

 

 

 

  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.